بوتين وميدفيديف وتبادل المناصب والأدوار

يبدو أن لعبة تبادل الأدوار على كرسي الرئاسة الروسية قد اكتملت بين كل من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين، وذلك بإعلان ميدفيديف نفسه اقتراح ترشيح بوتين للانتخابات الروسية القادمة عام 2012، حيث لم يتأخر بوتين عن تأكيد ترشحه، وعن إمكانية أن يصبح الرئيس الروسي الحالي رئيسا للوزراء في المرحلة المقبلة، وذلك خلال مؤتمر حزب روسيا الموحدة الحاكم الذي يحضر للانتخابات التشريعية الروسية، التي ستجرى في الشهر الأخير من هذا العام. وسبق لبوتين أن اختار في عام 2008 ميدفيديف خليفة له؛ نظرا لأن الدستور الروسي لا يسمح له بثلاث ولايات متتالية. ويمكن - نظريا - لبوتين أن يرشح نفسه من جديد للانتخابات الرئاسية المقبلة ولانتخابات عام 2018، وأن يبقى في السلطة حتى عام 2024.

تبادل المناصب
لم يخف فلاديمير بوتين طموحاته الرئاسية في أكثر من مناسبة، وهو يأمل في العودة إلى الكرملين واستئناف مسيرته التي بدأها مع مطلع هذا القرن، ويبرر دستورية ومشروعية طموحاته بتأكيده أنه وخلفه ميدفيديف لا ينويان القيام بأية خطوات من شأنها انتهاك نصوص الدستور الروسي. وعليه فإن توصل الزعيمان إلى اتفاق نهائي على اختيار المرشح من بينهما للانتخابات الرئاسية في عام 2012، يشير إلى توافقها على لعبة تبادل المناصب والأدوار؛ الأمر الذي يضعف القراءات والتكهنات بانفراط عقد التحالف الثنائي بين بوتين وميدفيديف، وبالتالي، فإن من المرجح ألا تشهد روسيا في الانتخابات الرئاسية المقبلة تنافسا حقيقيا؛ لأن توافق الثنائي الحاكم لا يسمح بالتنافس، على الرغم من الأحاديث عن تنامي التنافس بين فريقي ميدفيديف وبوتين، الأمر الذي يطرح أسئلة كثيرة حول الديمقراطية في روسيا، وحول تبادل السلطة والنفوذ بين أقطاب الحزب الحاكم. ولعل السؤال الأبرز يطاول إمكانية أن تفضي عملية تحديد الرئاسة بفترتين متتاليتين إلى تداول حقيقي للسلطة، وعما إذا كانت تشكل التفافا عليه في بعض التجارب، إضافة إلى أن الديمقراطية لا تختصر بالانتخابات التشريعية والرئاسية أو بالقوانين الدستورية وسواها.
ويأتي إعلان عملية تبادل المناصب لينهي أشهرا من التكهنات والتخمينات المصحوبة بالإثارة والتشويق في الشارع الروسي، والذي بدا مهتما بهذا القرار وغير منزعج منه في الوقت نفسه، حيث اعتبرت معظم وسائل الإعلام الروسية، خصوصا الرسمية، أن ترشيح ميدفيديف لبوتين لخوض الانتخابات الرئاسية خلال اجتماع أعضاء حزبهما الحاكم روسيا الموحدة يمهد الطريق لبوتين للعودة مجددا إلى الرئاسة وينسجم مع سياسة ترادف السلطة في روسيا، خصوصا أن الهيمنة التي يتمتع بها حزب روسيا الموحدة في الساحة السياسية الروسية، تشير إلى أن تبادل المناصب بين الزعيمين الروسيين سيتحقق بقدوم آذار (مارس) من العام المقبل.
ولا شك في أن بوتين هو العنصر المحرك في عملية تبادل المناصب وترادف السلطة، إذ بقي صاحب الكلمة العليا والمؤثرة في إدارة شؤون روسيا الاتحادية، خلال السنوات الست الماضية، على الرغم من ضعف السلطة التي يمنحها إياه منصب رئيس الوزراء، مقارنة بمنصب الرئاسة؛ لذا فقد كان متوقعا أن يكون تولي ميدفيديف منصب الرئيس الروسي، بمنزلة جسر يُمكن بوتين من العودة بواسطته إلى منصبه السابق، الذي تقلده لفترتين سابقتين متتاليتين بين عامي 2000 و2008، وكانتا تمثلان الحد الأقصى من عدد الفترات الرئاسية المتتالية التي يسمح بها الدستور الروسي للرئيس.

الانتخابات البرلمانية
تعيش الحياة السياسية في روسيا الاتحادية، في أيامنا هذه، على وقع مؤتمرات الأحزاب السياسية، التي تستعد لحملة الانتخابات البرلمانية، وتعتمد لوائح المرشحين لخوض انتخابات مجلس الدوما الروسي في الرابع من شهر كانون الأول (ديسمبر) المقبل، وحددت فترة العضوية الجديدة فيه بخمس سنوات. ويجب على الأحزاب الروسية، التي تنوي الحصول على تمثيل فيه، الحصول على أكثر من 7 في المائة من أصوات الناخبين المؤيدة لها. ويتشكل المجلس الحالي من أربعة أحزاب، هي حزب روسيا الموحدة، والحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية، والحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، وحزب روسيا العادلة.
واستعملت انتخابات مجلس الدوما الروسي، خلال السنوات الماضية، ليس كطريق يفضي إلى تغيير السلطة الحاكمة في موسكو؛ نظرا للصلاحيات القليلة التي يمنحها الدستور الروسي له، بل كغرض للانتخابات المرحلية، من حيث إن تنافس الأحزاب السياسية عليها يقدم مؤشرا إلى الجهة التي يميل إليها ميزان القوى. لذلك بات البرلمان الروسي بمنزلة مقياس لقوة الأحزاب وتأثيرها، ولجس نبض الشارع الروسي.
وتجد أطروحات وتوجهات فلاديمير بوتين الانتخابية قبولا لدى شرائح اجتماعية روسية واسعة، تمثل كتلة الروس الباحثين عن زعيم، يشدد قبضته الفولاذية على مقاليد الحكم في الاتحاد الروسي، الذي يتأرجح في سيره على مختلف الصعد: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث يقدم بوتين تصورا ينهض على ضرورة بناء كيان الدولة الروسية الصلب لمواجهة مختلف التحديات الداخلية والخارجية، من خلال تشكيل الآلية الثابتة له. وتلقى أطروحاته وتصوراته امتعاضا شديدا من طرف قوى وأحزاب المعارضة الروسية الليبرالية.
وهناك في روسيا من يرى أن بوتين قام بتعزيز أركان الدولة الروسية، خلال فترتي رئاسته السابقتين لمصلحة حزبه الذي يتزعمه، وتمكن من إعادة بعض مواقعها على الساحة الدولية، إلى جانب تحسين البنى التحتية، وتحقيق تحسن ملحوظ على الأحوال المعيشية لشرائح اجتماعية واسعة، ونجح في إحلال الاستقرار في روسيا، على الرغم من الصعوبات والأزمات العديدة التي تعانيها، لكن المعارضة الديمقراطية تراه شخصا غير ديمقراطي، وأن الاستقرار الذي حققه أفضى إلى الجمود والهيمنة، وأن روسيا التي يخطط لها لن تكون روسيا متوازنة في مختلف المجالات، بل روسيا ذات المجتمع المغلق، الذي لا يقوم على المؤسسات الديمقراطية وهيئات المجتمع المدني المهمشة.
وتنتقد قوى المعارضة توجهات بوتين ومدفيديف التي تغالي في إشادة نظام مركزي، يُعطل المبادرات المحلية والاجتماعية، ويلحق الضرر ببنية مؤسسات المجتمع المدني، فيما يعتبر بوتين أن روسيا في حاجة إلى دولة مركزية قوية في هذه المرحلة الانتقالية، لتقوية بنية وتركيبة روسيا الاتحادية، وفي حاجة كذلك إلى فترة زمنية لإتقان ممارسة الديمقراطية الحقة، وهو يخفي في توجهاته حقيقة معاداته للممارسة الديمقراطية، ولا يختلف في هذا الخصوص عن أطروحات وتوجهات الرئيس ميدفيديف. من هنا نفهم مواقف روسيا المعادية للثورات والانتفاضات التي تجتاح العديد من البلدان العربية منذ نهاية عام 2010، وتطالب بالحريات والديمقراطية.

زعيم الأمة
على الرغم من مرور قرابة ثلاث سنوات على جلوس الرئيس ديمتري ميدفيديف على كرسي الحكم في روسيا الاتحادية، إلا أن قطاعات واسعة من الروس ما زالت تنظر إلى فلاديمير بوتين بوصفه زعيم الأمة الروسية، الذي أعاد بعض هيبتها وقوتها. ولم يكن بوتين خلال فترة تسلمه منصب رئيس الوزراء بعيدا عن مركز القرار الأول في روسيا الاتحادية.
وتشير السنوات الثلاث الماضية إلى أن الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف لم يخرج عن الخط الذي سلكه قبله بوتين، خاصة أن بوتين دعم بقوة ترشيح ميدفيديف لكرسي الرئاسة، وانحاز الناخب الروسي إلى خياره؛ نظرا للنهج الذي اختاره، وحقق بواسطته إنجازات عديدة، وعلى الصعد كافة. وأشارت النسبة التي حصل عليها ميدفيديف في انتخابات الرئاسة السابقة، التي وصلت إلى 70 في المائة من أصوات الناخبين، إلى حجم التأييد الشعبي المرتفع لعهد الرئيس بوتين الذي دام ثماني سنوات، وبالتالي لم تؤثر الصورة السلبية، التي رسمها ساسة الغرب وروّجتها وسائل الإعلام الغربية، في الناخبين الروس؛ لأن بوتين يعدّ - بالنسبة لغالبية الروس - زعيما منقذا من حالات الانهيار والخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، التي عرفتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، خصوصا خلال عهد بوريس يلتسين، حيث تراجع الناتج الإجمالي الروسي إلى أكثر من النصف خلال الفترة الممتدة من 1991 إلى 2000، على الرغم من الدعم اللفظي والتأييد الأمريكي والأوروبي الذي كان يتلقاه يلتسين، ووصلت روسيا في عهده إلى حافة الانهيار والإفلاس؛ نظرا للأزمات الاقتصادية والمالية التي عصفت بها خلال فترة التسعينيات من القرن العشرين المنصرم، وأدت إلى تخريب الاقتصاد الروسي، وإلى فقدان روسيا دورها الدولي ومكانتها العالمية، لتصبح مجرد دولة ضعيفة تنتظر دعم الغرب، الذي لم يأت، على الرغم من التحاقها بالسياسات والتوجهات الأمريكية.
غير أن الصورة تغيرت بعد أن تربع فلاديمير بوتين على عرش الكريملين، وأخذ يمسك بمفاتيح الوضع الروسي، حيث زادت مداخيل المواطنين الروس، وتحسنت أوضاعهم وظروفهم المعيشية بشكل ملموس، وتوسعت بشكل لافت الطبقة المتوسطة الروسية بالنسبة إلى إجمالي السكان، وباتت تشكل أكثر من 35 في المائة، وتخلصت روسيا من بعض أباطرة المال والمتـنفذين الذين سيطروا على المفاصل الاقتصادية ونهبوا ثروات البلاد. والأهم من ذلك هو الإنجاز الذي حققه بوتين بتخليص روسيا مديونيتها الكبيرة، وتخفيض نسبة التضخم من 75 في المائة إلى 12 في المائة. كما تخلصت روسيا من عزلتها العالمية، وأقامت علاقات تعاون وشراكة مع معظم الدول الفاعلة اقتصاديا، وتمكنت من الوصول إلى رئاسة مجموعة الدول الثماني الكبار في العالم؛ الأمر الذي كشف عن تعاظم دورها ونفوذها فيما يسمى المجتمع الدولي.
ويحسب المناصرون لتوجهات بوتين اختياره سياسات خارجية مستقلة إلى حدّ ما، بل معارضة لسياسات الولايات المتحدة، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة. ووجه، في أكثر من مناسبة، انتقادات لاذعة للولايات المتحدة، ووصفها بأنها لا تحترم العلاقات الدولية، وتجرّ العالم إلى المزيد من التوتر والاستقطاب، وأن سياساتها زادت من مشكلات العالم، ودعاها إلى الإقلاع عن نهج الغطرسة، وإلى المشاركة واحترام مصالح الآخرين، والاتجاه نحو التعددية الدولية.
واستند الرئيس ميدفيديف إلى ما أنجزه بوتين، ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل على النظام الذي وطده، وعلى الاستثمارات في مختلف مجالات البنية التحتية والإمكانات العلمية، وتجديد المؤسسات العسكرية، وتطوير قدرات الجيش الروسي، ورفع معدلات النمو. وكان الروس يأملون في أن تشهد فترة رئاسته تراجعا لهيمنة وسيطرة الدولة وللتقييد الذي شهدته الحريات المدنية خلال فترتي حكم بوتين. وزعم ميدفيديف أنه يسعى إلى تغيير الاقتصاد الروسي؛ لأنه وصل إلى طريق مسدود، وإلى تغيير النظام السياسي. وادعى أن الحرية لا تنتظر، لكن أول مرسوم أصدره فور تربعه على عرش الكرملين، هو تعيين بوتين رئيسا للوزراء. وظهر وكأنه لم يفعل شيئا سوى السير على نهج بوتين ومحاباته وإتقاء غضبه، وخاض حربا ضد جورجيا، وأظهر مواقف معادية للربيع العربي.
وإذا كانت روسيا مقبلة على مرحلة جديدة بزعامة بوتين، فإن ذلك لا يفضي إلى القول إنها ستكون في أحسن حالاتها، ولن تواجه مشكلات وتحديات، فهناك مشكلات تطاول تضخم الإدارة والبيروقراطية، والنزيف الديموغرافي، والفساد الحكومي، وتفشي الإدمان على الكحول وسواها. وهذه المشكلات والتحديات تنتظر الرئيس الروسي القادم، وينتظره كذلك قضية بناء قطاع إنتاجي قادر على المنافسة دوليا، والكف عن الاعتماد على الاقتصاد الريعي، والاهتمام باقتصاد المعرفة، وتطوير الصناعة الفضائية، إلى جانب الاستمرار في تحسين الوضع المعيشي للمواطنين الروس وتوسيع الحريات والممارسة الديمقراطية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي