بناء العلامة التجارية للسعودية

لقد أصبح اليوم موضوع بناء علامة للدولة قضية مهمة، خاصة لتلك الدول التي تسعى إلى تعزيز مكانتها على المستوى الدولي. وازداد الاتجاه نحو تحسين الصورة الإيجابية دولياً بعد عولمة التجارة وانفتاح العالم الاقتصادي والثقافي الذي صاحبه انتشار حوادث الإرهاب وغسل الأموال والجريمة المنظمة والحروب. والعلامة التجارية للدولة ربما هي الآن من أقوى أسلحة التسويق الاستراتيجي للدول. اليوم نرى معظم الدول تمتلك منتجعات راقية وفنادق ذات الخمس نجوم ومناطق جذب جميلة ومزارات أثرية عريقة. وكل دولة تدعي أن ثقافتها مميزة وتراثها عريق وتصف شعبها بأنه شعب ودود ومرحب بالزائرين، وهناك خدمات متأهبة لخدمتهم، ما جعل الادعاء بأن هناك تميزا ملحوظا بين الأماكن أصبح اليوم إلى حد ما معدوماً. وبرزت فكرة أن تتصرف الدول كالشركات فيما يتعلق بالعلامة وأصبحت توجهاً مألوفاً لدى رجال الاقتصاد والسياسة في تلك الدول التي تسعى إلى اكتساب مزيد من القبول لها ولقيمها وتنشد لها موقعاً في السوق العالمية لترويج صادراتها، واجتذاب الاستثمارات والسياحة والاحترام العالمي.
وبتطور الاهتمام بعلامات الدول أصبحت علامة الدولة بالنسبة لها ''رأس مال استراتيجيا''، فهي تجلب لها نفوذا سياسيا وفوائد اقتصادية كبيرة. الدول في حاجة إلى إدارة التصورات عنها والتحكم في صورتها في العالم من أجل الاستفادة من ذلك في التعامل مع قضاياها ومصالحها الوطنية. كما أن العلامة مهمة أيضا بالنسبة للدول المتشابهة أكثر من غيرها كدول المنطقة العربية والدول الإفريقية ودول جنوب شرق آسيا. فمن الملاحظ أن سكان العالم يطلقون عادة التعميمات والنظر بمنظار عام لافتقادهم أي تصور واضح ومتميز قدمته لهم تلك الدولة في ذلك الجزء من العالم البعيد عنهم.
واشتد الاهتمام بالعلامات للدولة بعد أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من تداعيات أصبح الحديث عن الصورة الذهنية للدولة، والعولمة، والحرب على الإرهاب مفاهيم ذات أهمية كبرى للدول. الدول الديمقراطية المتقدمة تدرك أن علامة الدولة ستسهم في تحقيق الحماية في المجتمع الدولي وتقلل من الاعتماد الكبير على الجهود الدبلوماسية المضنية للتعايش مع المستجدات الجديدة. كما تساعدها العلامة على استعادة أو تعزيز مصداقيتها الدولية وثقة المستثمرين بها، وتحافظ على مستوى مستقر من عمليات تقييم المؤسسات الدولية لها. وتساعد العلامة على دحض التهم والشبهات الموجهة لها حكومة أو شعبا أو ثقافة. ومحلياً فإن العلامة تعزز جهود البناء الوطني الداخلي (الثقة، الفخر بالانتماء للدولة، الطموح، الوطنية، والولاء)، فالموارد الطبيعية الناضبة لا يمكن أن تبني التصور والهوية المستديمة، كما أن التمحور حول المتغيرات الاجتماعية المؤقتة، وإن علت وبرزت، لا تتجذر في انتماءات الشعوب.
ولبناء هذه العلامة فإنه يتعين على أي دولة أن تحدد قيمها ومميزاتها التنافسية المستديمة التي يمكن أن تبني من خلالها العلامة. وما الصفات والأبعاد التي يمكن أن تتضمنها علامتها التجارية؟ وما مدى إدراك شعب تلك الدولة لتلك الصفات والأبعاد؟ وما مدى توافق التصرفات الرسمية مع تلك العلامة المتبناة؟ وما مدى إدراك الشعوب الأخرى والمستهدفون من تلك الأبعاد؟ وإن غياب البناء المنهجي المنظم للعلامة توجد فجوة واضحة في كيفية بناء العلامة لدولة ما.
وهو بذلك يعتبر تحدياً كبيراً، فهناك عدد قليل جداً من الدول المحظوظة التي تمتلك علامة دولية قوية ومتميزة. وربما لا يوجد سوى عشرة أو أقل من تلك الدول من تمتلك علامة دولية إيجابية تخدم المجال الذي يمكن أن تتطور من خلاله تلك الدول مستقبلاً. أما البقية فجميعهم يواجهون عملاً شاقاً للوصول إلى سبل إدارة وتعزيز علاماتهم وصورتهم الدولية. إذ إن تغيير نظرة العالم لدولة ما ليس سهلاً كما لا يتوقع أن يتحقق في زمن قصير، وربما تطلب الأمر عشرات أو مئات السنين من الزمن.
ويخطئ من يظن أن تسويق علامة الدولة كتسويق علامة السياحة فيها. فتسويق علامة الدولة يتطلب مجهودات أكبر بكثير من تسويق السياحة فيها. إذ إن العلاقات الخارجية والاقتصاد، والمناخ الاستثماري والمبادلات التجارية الدولية والاندماج في المنظمات الدولية، كلها عوامل مهمة لتسويق علامة الدولة، في حين أن بعضاً من هذه المتطلبات غير جوهرية لتسويق السياحة فيها. ومن أمثلة ذلك إيرلندا واسكتلندا فكلاهما يمتلكان مقومات سياحية رائعة ومواقع تراثية وطبيعية خلابة استقطبت ملايين السياح الأمريكان واليابان لكنها لم تستطع أن تستقطب إحدى الشركات الأمريكية أو اليابانية للاستثمار فيها كما لم تتمكن من خلق الهوية الوطنية الموحدة الجامعة لشعبها، وذلك لأن المتطلبات مختلفة.
وبينت الدراسات أن بناء علامة تجارية لدولة ما يتطلب ثلاث خطوات مهمة هي أولاً: فهم الفجوة التي تفصل بين ما ترغب أن تكون عليه الدولة وبين واقعها. وهذا الفهم يجب أن يكون نابعاً من مواطني الدولة أنفسهم لا نخبة منهم أو فئة واحدة فيهم. ثانياً: وضوح الرؤية بحيث تكون الرؤية الإصلاحية للدولة واضحة المعالم لمواطنيها ومتوافقة مع المتطلبات الدولية المرغوبة ومتناسقة مع ما تريد الدولة لشعوبها أن تعتز به كعلامة. وثالثاً: المشاركة الجماعية بحيث تتحسس الدولة موقف المواطنين من برنامج بناء العلامة وخلق أساس مقبول لمرتكزات الهوية المطلوب الالتفاف حولها والاعتزاز بها وإذا ما كان الأمر يحتاج إلى تعديل أو تغيير في مسارات بناء الهوية. وهذه المشاركة ستكون بمنزلة المعزز لنجاح الخطوتين السابقتين. وأي برنامج قومي لبناء العلامة فهو بلا شك يستوجب ربطاً وتكاملاً مع الجهود الشاملة في كامل نظام الدولة.
وبحسب استقراء تجارب الدول الأخرى فإن الدولة يمكن أن تغير من الانطباع حول علامتها إذا وضعت برنامجاً متوازناً مبنياً على دراسة عميقة لمكتسباتها وميزاتها التنافسية. ومن الأمثلة التجارية وليس الاجتماعية أو السياسية على ذلك تجربة (صنع في اليابان) Made in Japan، فقبل نحو 30 عاماً كان هذا الشعار سلبياً لدى كثير من الأسواق الأوروبية والأمريكية، ويعني لدى المستهلكين أنه منتج متهالك، ومن الدرجة الثانية، ورخيص. وكان من أهم دوافع شرائه في الأسواق أنه رخيص الثمن. وبعد أن تبنت اليابان مفهوم الجودة العالية والمنافسة الدولية والسبق التكنولوجي أصبحت المنتجات اليابانية في طليعة المنتجات العالمية من حيث الجودة، والسعر المنافس، والتقنية العالية، فتحول التصور للعلامة في زمن قصير إلى تصور إيجابي رائد في العالم.
كما يتطلب بناء علامة جيدة لتمييز الدولة أن تضع مبادئ عامة وتكون فرق عمل وإجراءات وخطوات وحلولا استراتيجية يجب أن تتبع لتحقيق ذلك الهدف. وأكدت التجارب أن بناء علامة جيدة لتمييز الدولة يجب أن يبدأ بالتعاون بين مجموعة من الهيئات والوزارات مثل وزارة الداخلية والخارجية والإعلام وهيئة الاستثمار وهيئة السياحة وجمعيات المجتمع المدني والقطاع الخاص. وحيث إن هذه العملية معقدة ومتشابكة الأطراف فإنه يجب أن تكون هناك طريقة لتحقيق تعاون هذه الأطراف معاً لتحقيق ذلك الهدف. وكل الدول التي عنيت بذلك قد كونت فرق عمل أو أوكلتها بوضوح لجهة رسمية تشترك فيها أطراف من الهيئات السابقة ويكون لها مصدر تمويل ثابت وهيكل تنظيمي محدد، وذلك للقيام بهذا العمل بصورة سليمة ومستديمة. وفي النهاية فإن آثار ونتائج ذلك العمل ستستغرق وقتاً طويلاً ومجهوداً كبيرا، لكنه مطلب ضروري لا بد منه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي