الأمة في خطر .. تداعيات الاحتقان الطائفي في مصر
يمكن القول إن أحداث الأحد الدامي 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، التي شهدت مصادمات دموية بين محتجين أقباط وقوات من الجيش والشرطة وسط العاصمة المصرية القاهرة، تمثل انحرافا واضحا عن سلمية الثورة المصرية وتهديدا خطيرا يواجه نسيج الأمة المصرية في مرحلة ما بعد مبارك. فقد سقط نحو 25 قتيلا ومئات من الجرحى في صفوف الطرفين، وهو الأمر الذي دفع بالسلطات المصرية إلى فرض حظر التجوال في منطقة ماسبيرو، حيث مقر التلفزيون المصري، وما حولها من أحياء مهمة تحتضن مؤسسات الحكم والإدارة في الدولة المصرية. فما الذي حدث خطأ؟ وهل تنتصر قوى الثورة المضادة في مصر وتدفع بالبلاد إلى فتنة لا يعلم مداها إلا الله؟ وهل تنجح أدوات التسميم السياسي في الداخل والخارج في تمزيق اللحمة الوطنية التي جمعت بين المصريين عبر آلاف السنين؟ وما العمل في مواجهة ذلك كله؟
ميراث ثقيل لنظم الاستبداد
قد يبدو الأمر مأساويا وأقرب إلى مشاهد التراجيديا السوداء التي لا تتفق مع مبادئ المنطق والتفكير السليم، فالمشهد واحد بمسرح أحداثه التي لا تتغير أبدا وإن تغيرت شخوصه. يبدأ الأمر بمحاولة ترميم كنيسة أو بناء أخرى فترفض سلطة الإدارة الحكومية المختصة بحجة عدم وجود التراخيص المطلوبة وربما يهب بعض المسلمين الذين يتصورون أنهم يذودون عن حياض الإسلام ويأخذون الأمر على عاتقهم فيهدمون ما تم من بناء أو يحرقون ما هو قائم. عندئذ تشتعل نيران الفتنة التي تؤججها مواريث هائلة من غياب الثقة والسياسات الحكومية الخاطئة. وفي مناسبة أخرى يتحول أحدهم إلى الإسلام أو إلى المسيحية فتقوم الدنيا ولا تعقد دفاعا عن المتحولين الجدد الذين عادة ما تحركهم نوازع اقتصادية أو اجتماعية لا علاقة لها بالإيمان والعقيدة. ولعل ما يدمي القلوب أن مصر المحروسة تشهد وجود ثلاثة ملايين من أطفال الشوارع - وفقا لبعض التقديرات غير الرسمية - يهيمون على وجوههم ويحتاجون إلى الرعاية بشكل يفوق حاجة شخص ترك دينه طمعا في زواج جديد أو فرصة اقتصادية أفضل.
لقد تكررت هذه المشاهد المأساوية بتفاصيلها نفسها بعد الإطاحة بنظام مبارك أكثر من مرة، في أحداث كنيستي صول وإمبابة، اللتين قام الجيش المصري بإعادة بنائهما درءا للفتنة. وها هو المشهد عينه يتكرر في إحدى ضواحي مدينة أسوان. يقوم أحد الأقباط بتعلية بناء كنسي وإقامة الشعائر الدينية فيه، وهو ما يثير حفيظة بعض التيارات الإسلامية التي ترفض وجود كنيسة في هذا المكان. بيد أن المحافظ والمسؤولين الأمنيين يرون أن المبنى هو في الأصل دار للضيافة وليس حائزا ترخيص كنيسة. والنتيجة هي كمألوف أحداث مصر بعد الثورة، غياب للتواصل بين السلطات الرسمية وجماهير المحتجين، وبطء واضح في اتخاذ القرار، وهو ما يدفع بالأمور إلى هذا المنحى العنيف من التصعيد.
لعله من الإنصاف القول إن الثورة المصرية بريئة من هذه الأحداث التي تعبر عن ميراث طويل من فساد أنظمة الاستبداد التي شهدتها مصر منذ عام 1952. فقد فشلت الحكومات المصرية المتعاقبة على مدى العقود الخمسة الماضية في التعاطي مع المسألة القبطية بشجاعة وشفافية وانتهجت سياسة المماطلة والتسويف، بل اعتمدت على إطار تشريعي وقانوني عتيق من أجل تنظيم مسائل العبادة ومؤسساتها والأحوال الاجتماعية لغير المسلمين. ويمكن في هذا السياق أن نشير إلى أحداث قرية الكشح في صعيد مصر وكنيسة القديسين في الإسكندرية، وهي الأحداث التي عكست احتقانا طائفيا في مصر خلال عهد نظام مبارك البائد.
إشكالية التشريع الجديد
ربما يقول قائل: لماذا تلكأت الحكومة المصرية برئاسة الدكتور عصام شرف في إصدار قانون دور العبادة الموحد؟ فقد اقترح بعض النشطاء والحقوقيين المصريين من دعاة المواطنة والدولة المدنية أن تبنى الكنيسة بمجرد الإخطار دون موافقات مسبقة من جهاز الأمن الوطني. ومن اللافت للانتباه أن البعض تصور في غمرة التغيرات الفارقة التي تشهدها مصر الثورة إمكانية إصدار تشريع جديد لا يقوم بالتمييز بين كنيسة أو مسجد أو محفل بهائي أو معبد يهودي.
لعل الملاحظة الأولى في هذا السياق ترتبط بفقه الأولويات الثورية، فدعاة الفتنة والتشتيت الذين لا يراعون إلا مصالحهم الفئوية أو الدينية يريدون أن ينحرفوا بالثورة عن مسارها الطبيعي، وهو بناء دولة وطنية ديمقراطية عصرية. فهل الأولوية اليوم في مصر لبناء مسجد أو كنيسة أم لتحقيق الأمن والاستقرار والنهوض بمؤسسات التعليم والثقافة التي عانت التخريب والإهمال في ظل النظام السابق؟ أما الأمر الثاني فيرتبط بطبيعة الحكومة الانتقالية الحالية في مصر والصلاحيات المكفولة لها، فهي بحكم التعريف تقود البلاد عبر هذه المرحلة الحرجة إلى حين إجراء الانتخابات العامة وتشكيل حكومة جديدة منتخبة تتولى زمام الأمور. وعليه فإن الأولويات الكبرى تتمثل في حفظ الأمن ودفع عجلة الإنتاج وإجراء الانتخابات العامة، وعليه فإنه لا مجال اليوم للمطالبات الفئوية أو الدينية التي تحتاج إلى نقاش مجتمعي عام وحكومة منتخبة.
والأمر الثالث والأهم، فإن قانون دور العبادة الموحد، كما يقول المفكر المصري البارز إبراهيم غانم، ينبغي أن يقوم على أساس العدالة والمساواة التي تستند إليها قيم المواطنة الصحيحة. وعليه فإن ميزان العدالة هنا يتمثل في عدد السكان ومساحة دور العبادة. يعني ذلك أن يحدد نصيب المواطن بالتساوي من مساحة دور العبادة سواء للمسلمين أو المسيحيين دون زيادة أو نقصان. وربما يتطلب ذلك ضرورة إجراء إحصاء دقيق لعدد السكان يتضمن الانتماء الديني. ورأى الدكتور غانم ضرورة أن يأخذ مثل هذا التشريع حظه من النقاش المجتمعي العام على أن يتضمن إجابة عن التساؤلات التالية: ما المقصود بدور العبادة؟ وما معايير إعطاء التراخيص للبناء على سبيل الحصر؟ وما الجهة الرسمية المسؤولة عن إعطاء التراخيص؟ وما مصادر تمويل دور العبادة سواء من الداخل أو من الخارج؟
وبالنظر إلى مشروع قانون دور العبادة الموحد، الذي لم يصدره المجلس العسكري الحاكم في مصر، نجد أنه لا يتفق ومعيار المواطنة المصرية، حيث إنه يحابي طرفا على طرف آخر، فضلا عن كونه أصبح جزءا من المشكلة وليس خطوة على طريق الحل. وربما يتضح ذلك من الجدل الشديد الذي أثاره المشروع حتى بين المسيحيين أنفسهم.
أدوات خارجية للتسميم السياسي
على الرغم من قناعتنا الذاتية بأن حالة الاحتقان الطائفي في مصر صناعة محلية بامتياز نتيجة فساد السياسات المتبعة وعدم معالجة الأسباب الحقيقية، فإن ثمة أيادي خارجية تدفع مصر بهذا الاتجاه المظلم، وذلك من خلال رفع فزاعة الحريات الدينية. لعلها ليست مصادفة أن يخرج تقرير الخارجية الأمريكية عن الحريات الدينية في مصر يوم 13 أيار (أغسطس) الماضي ليعبر عن حملة عمدية من التشويه وقلب الحقائق ضد مصر والمصريين.
من المعلوم في فقه العلاقات الدولية كيف تكتب وتعد هذه التقارير التي تستبطن أهدافا سياسية وأيديولوجية خفية ومعلنة في بعض الحالات. ومن ذلك تقارير ما يسمى الحريات الدينية في العالم، الذي تعده سنويا وزارة الخارجية الأمريكية، بحيث تصبح مثل هذه التقارير أداة من أدوات الضغط السياسي الأمريكي على إرادة صانعي القرار في الدول المعنية. والملاحظ في تقرير هذا العام أنه بالَغ وضخّم حجم المسألة القبطية في مصر من خلال سرد بعض الأحداث والمواقف عما سماه التمييز الديني ضد الأقباط، وهي وقائع لا تخرج عن كونها كلاما مرسلا لا يستند إلى دليل.
وإذا أخذنا الإحصاءات الواردة في التقرير الأمريكي لوجدنا أنها تقديرية ولا تستند إلى مصدر حكومي أو دولي موثوق به. فالقول بأن عدد الأقباط في مصر يراوح بين 8 و12 في المائة ينقصه الدليل ويتم عرضه وكأنه حقيقة مسلم بها. وجاء القسم الثاني من التقرير وهو بعنوان: موقف الحكومة المصرية من احترام الحرية الدينية، وكأنه تحريض مباشر ضد الدولة المصرية التي باتت وكأنه لا هم لها سوى التصدي لحملات التحول عن الإسلام أو تعطيل بناء الكنائس وترميمها.
لقد دفعت مثل هذه التقارير وغيرها من التصريحات الأمريكية والغربية، التي تعبر عن خوف الغرب من تصاعد المد الإسلامي بعد ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، ببعض المتطرفين المسيحيين إلى الاستقواء بالخارج. ألم يطالب أحد الأقباط في بلاد المهجر بحماية دولية للمسيحيين في مصر؟ بل كيف نفسر خروج بعض المتظاهرين الأقباط وهم يلبسون زيا كهنوتيا مكتوبا عليه مرحبا بالشهادة من أجل المسيح؟! إنها يقينا ممارسات خاطئة تخرج عن الروح المصرية الجامعة التي لم تميز قط بين مسلم ومسيحي.
إن علينا الاعتراف بأن ثمة أخطاء تاريخية وقعت في حق أقباط مصر ومسلميها على السواء جراء نظم مستبدة آثرت الانفراد بالسلطة. فكيف نفهم على سبيل المثال الاضطهاد الطويل لجماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1953، وهو ما دفع بالنظام السابق لوصفهم بالجماعة المحظورة وكأنهم هبطوا إلى مصر من كوكب آخر. وعليه فإن التخطيط السليم لمستقبل مصر بعد الثورة ينبغي أن يتم بعيدا عن النوازع الطائفية والفئوية العاجلة مع اتخاذ الخطوات الثلاث الآتية: أولا ترسيخ إجراءات الحقيقة والمصالحة، فكثير من لجان التحقيق والتقصي حول أحداث دموية ذات بعد طائفي وقعت قبل الثورة وبعدها لم تخرج تقاريرها إلى حيز النور قط. فمعرفة الحقيقة شرط لازم لأن يتصالح المصريون مع أنفسهم ومع ماضيهم. وثانيا ضرورة إجراء حوار مجتمعي شامل للاتفاق على القضايا الوطنية الكلية مثل شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم فيها ومنظومة الحقوق والحريات الأساسية التي يشتمل عليها الدستور الجديد بما يؤدي في النهاية إلى إقامة دولة وطنية مستقلة بعيدا عن حالة الاستقطاب السياسي الراهنة. أما الخطوة الثالثة فهي إعلاء الإرادة الشعبية والإيمان عملا وليس قولا بأن الشعب مصدر السلطات، فالجميع في مصر اليوم يتحدث باسم الشعب ولا ينتظر إجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة لتعبر عن إرادة الجماهير، ولا سيما الأغلبية الصامتة منهم. لا مراء أن أحداث ماسبيرو الدامية يوم 9 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي تمثل جرحا داميا في جسد الثورة المصرية وهو ما يعرض وحدة الأمة المصرية للخطر. ولعل ذلك يفرض على السلطة الانتقالية الحاكمة أن تعيد النظر في أدوات اتصالها مع الجماهير بما يحقق الشفافية في الأداء ويزيل الشك من الأذهان ويعيد بناء الثقة المفقودة بين الجميع. وأحسب أن مصر اليوم في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى حكومة أزمة تضع نصب عينيها العبور بمصر إلى بر الأمان. ولا أظن أن حكومة عصام شرف قادرة على القيام بذلك، والله أعلم.