الصومال.. الأجندات والمصالح واستباحة الأمن العربي

على الرغم من أهمية الصومال الجيواستراتيجية بالنسبة لمنظومة الأمن القومي العربي فإن الجامعة العربية على مدى عقدين من الزمان لم تستطع القيام بدور فاعل لإنقاذ الصومال، الذي عانى انهيار حكومته المركزية منذ عام 1991. لقد تدخل الجميع من أهل الجوار الإفريقي والقوى الدولية ذات المصلحة وتقدموا بمبادرات للمصالحة الوطنية وعقدوا مؤتمرات دولية حول الصومال في الوقت الذي اكتفى فيه العرب إما بالمشاركة على استحياء وإما المراقبة وكأن الصومال ليس عضوا في بيت العرب منذ عام 1974.
ولا يخفى أن هذا الغياب العربي الواضح عن المشهد السياسي الصومالي يطرح العديد من التساؤلات. أولها يتعلق بغياب التنسيق بين الدول العربية وهو ما يؤدي إلى اتخاذ سياسات قد تبدو متناقضة على المستوى الثنائي. ولعل ذلك يستبطن في جوهره غياب الرؤية العربية بشأن التعامل مع واحدة من أهم دول الأطراف في النظام الإقليمي العربي. وثانياً لماذا لم تنجح الجامعة العربية أو بعض أعضائها المؤثرين في عقد مؤتمر للمصالحة الوطنية الصومالية، وهو ما دفع بمبادرات التسوية لتتجه صوب قوى إفريقية مثل كينيا وإثيوبيا؟ وثالثاً لماذا تركت مهام حفظ السلام لقوات من الاتحاد الإفريقي، ولا سيما أوغندا وبوروندي في حين لم تبد دولة عربية واحدة استعدادها للمشاركة في هذه المهمة؟ لقد بات لسان حال الصوماليين وكأنه يقول: هل نحن عرب حقاً؟ ولماذا نحن أعضاء في جامعة الدول العربية؟
وشهدت القضية الصومالية في الفترة القصيرة الماضية ثلاثة تطورات مهمة أحسب أن تداعياتها ستزيد من حدة التباعد بين العرب والصومال من جهة وستؤثر سلباً في منظومة الأمن القومي العربي في امتداده الإفريقي من جهة أخرى:

أولاً: التدخل الكيني
في أعقاب اختطاف اثنين من عمال الإغاثة الإسبان في الأراضي الكينية يوم الخميس 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 اتهمت كينيا الشباب المجاهدين بعبور الحدود وارتكاب هذه الجريمة. وأعلنت السلطات الكينية مراراً أنها ستستخدم حقها في الدفاع عن النفس لتتبع المتهمين عبر الأراضي الصومالية. وعلى الرغم من أن الجيش الكيني يعد ثاني أكبر جيش في منطقة شرق إفريقيا بعد الجيش الإثيوبي إلا أنه لم يقم بأية مهام قتالية على الإطلاق خارج الحدود. وعليه فإن قيام كينيا بغزو الصومال عسكريا يمثل تحولا مهما في السياسة الكينية منذ استقلال البلاد عام 1961. لقد أولت كينيا أمن حدودها مع الصومال اهتماما بالغاً، حيث إن شباب المجاهدين هددوا في أكثر من مناسبة بنقل المعركة إلى قلب العاصمة نيروبي. بيد أنه في أعقاب عمليات الهجوم على السائحين الغربيين في كينيا خشيت السلطات الكينية أن يؤثر ذلك في قطاع السياحة الذي يشكل مصدراً مهماً من مصادر دخلها القومي.
إن كينيا تعد إحدى القوى الاقتصادية الصاعدة في المنطقة، وهي تعتمد اعتماداً كبيراً على قطاع السياحة التي تأثرت سلباً بعد اختطاف اثنين من عمال الإغاثة العاملين في منظمة أطباء بلا حدود، إضافة إلى اختطاف سائحة بريطانية ومقتل زوجها في مدينة لامو الساحلية أوائل أيلول (سبتمبر) الماضي. ومن المعلوم أن كينيا تستضيف نحو نصف مليون لاجئ صومالي، إضافة إلى وجود جاليات صومالية كثيرة استطاعت الاندماج في المجتمع الكيني، وهو ما يعني إضافة مزيد من التعقيد على الموقف الكيني إزاء المسألة الصومالية.
بيد أن هذا التدخل الكيني العسكري في الأراضي الصومالية وإن استهدف القضاء على خطورة شباب المجاهدين وتأمين منطقة الحدود مع كينيا فإنه لا يخلو من مخاطر جمة، فالجيش الكيني يفتقر إلى الخبرة القتالية في خارج حدوده وهو ما يعرضه لتحديات من قبل شباب المجاهدين الذين يمتلكون مهارات كبيرة وقدرات لا بأس بها في حرب العصابات. إضافة إلى إمكانية التهديد بأعمال إرهابية داخل الأراضي الكينية.
وعلى أية حال فإن المثير للاهتمام هو الصمت العربي غير المفهوم على غزو أراضي دولة عربية عضو في جامعة الدول العربية. إذ إنه بغض النظر عن الدوافع والمبررات التي ساقتها الحكومة الكينية لتبرير تدخلها فإن هذا الغزو يعتبر انتهاكاً صارخا للقانون الدولي وعدوانا على سيادة دولة عربية أصيلة. ولعل ذلك يعيد إلى الأذهان خبرة التدخل الإثيوبي في الصومال عام 2006، والذي لم يحرك له العرب ساكناً، وكأن الصومال شأن غير عربي.

ثانياً التدخل الإفريقي
في منتصف الشهر الماضي تمكنت قوات الاتحاد الإفريقي المعروفة باسم (أميسوم) وقوات الحكومة الصومالية الانتقالية من طرد مقاتلي شباب المجاهدين من العاصمة مقديشيو وتحريرها بالكامل من قبضة المتمردين. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تمتلك وجودا عسكرياً مباشراً في الأراضي الصومالية فإنها تستخدم منذ سنوات نظم الطائرات بدون طيار لتعقب قادة شباب المجاهدين وقتلهم. ونظراً للدور الأوغندي المهم في إطار قوات الاتحاد الإفريقي العاملة في الصومال فقد قرر الرئيس الأمريكي باراك أوباما إرسال فرقة عسكرية أمريكية مكونة من 100 شخص لتوفير الدعم اللوجيستي والاستخباراتي من أجل محاربة قوات جيش الرب للمقاومة وزعيمه جورج كوني المطلوب للعدالة الدولية.
وعليه فإنه يمكن فهم طبيعة الأدوار الدولية في الصومال، حيث تبدو المصالح والأجندات السياسية متشابكة بين اعتبارات الأمن الإقليمي في شرق إفريقيا ووسطها ومصالح دول الجوار الجغرافي للصومال وكذلك القوى الدولية الفاعلة، فالجميع يأتي إلى الصومال تحقيقاً لمصلحة أو توقعاً لمنفعة إلا العرب الذين شغلتهم أنفسهم وتناسوا أمر أمنهم القومي فتركوا ترتيبه لغيرهم.
لقد أخذت أرقب أحوال الصومال من كثب لسنوات طويلة فوجدتها أقرب إلى فصول الدراما السوداء، حيث يميل الجميع إلى محاولة التخلص منها باعتبارها نوعا من الابتلاء الذاتي. ألم يتحدث معظمهم عن المرض الصومالي الذي لا يرجى منه شفاء؟ وبات الأفارقة والأوروبيون يتعاملون مع أعراض ذلك المرض وكأنه أمر واقع ومحتوم، ويمكن أن نشير إلى مثالين اثنين:
* أولهما إقليم بونت لاند الذي يحظى بالحكم الذاتي ويتمتع بقدر كبير من الاستقرار النسبي يتصرف وكأنه دولة مستقلة ذات سيادة. ففي يومي 13 و14 تشرين الأول (أكتوبر) الماضيين استقبل رئيس الإقليم عبد الرحمن محمد محمود (فارولي) كلا من الممثل الأعلى للاتحاد الإفريقي في الصومال جيري رولنجز، وهو رئيس غانا الأسبق، والمبعوث الخاص لرئيس المفوضية الإفريقية السفير أبو بكر ديارا، ومبعوث الأمم المتحدة الخاص بالصومال السفير أوجستين ماهيجا. إضافة إلى مبعوث كل من الولايات المتحدة وبريطانيا. إنها حركة دبلوماسية نشطة وفاعلة، لكنها تفتقد الوجه العربي. وكأننا لا نتذكر الصومال إلا بالدعاء وحث المحسنين على بذل الخير لمساعدة إخوانهم الذين يعانون آلام العوز والجوع.
* ثانيهما التقسيم الواقعي للصومال، وهو ما يعني اعتماد سياسة ''الصوملة'' أو إن شئت فقل ''البلقنة''، فجمهورية أرض الصومال تمارس كل أعمال السيادة الوطنية ولا ينقصها إلا الاعتراف القانوني الدولي، وثمة من يعترف بها من دول الجوار الإفريقية، وإن كان اعترافا واقعيا. أما نحن العرب فما زلنا نتمسك بوحدة الجسد الصومالي من خلال عبارات بلاغية رنانة غير عابئين بمآلات أعضاء هذا الجسد الذي تداعى عليه الجميع.
في 19 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي دانت سلطات إقليم بونت لاند زيارة قام بها رئيس جمهورية أرض الصومال أحمد محمد محمود (سيلانيو) لمدينة لاس عنود المتنازع عليها بين الجانبين. إذ ترى بونت لاند أن قوات أرض الصومال استولت على هذه المنطقة باستخدام القوة المسلحة عام 2007 وقامت بضمها إلى نطاق إدارتها الإقليمية. ألا يعكس ذلك في أحد تجلياته نزاعا حدوديا بين إقليمين وكأنهما يتمتعان بالسيادة الكاملة؟ فالحكومة الفيدرالية في مقديشيو لا تملك من أمرها شيئاً، حيث إنها تفتقر إلى الشرعية الوطنية، فإذا ما نزع عنها غطاء الدعم الدولي هوت وأصبحت نسياً منسياً.

الدور التركي
يمكن القول إن تركيا تمارس دوراً غير مسبوق في المسألة الصومالية، ففي 19 آب (أغسطس) 2011 قام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان هو وعائلته بزيارة هي الأولى من نوعها لمدينة مقديشيو منذ عام 1991. وكان مشهداً مؤثراً للغاية حينما جال أردوغان وعائلته وبعض وزرائه مع عائلاتهم في شوارع مدينة مقديشيو. ومن خلال المساعدات الإنسانية التي قدمتها حكومته للصومال أضحى من المهم الحديث عن دور الدبلوماسية الإنسانية الإسلامية.
لكن ما الذي يميز الدور التركي في الصومال عن غيره من الأدوار الإقليمية والدولية؟ لقد تم طرح وتطبيق العديد من المبادرات والاقتراحات لتسوية المشكلة الصومالية لكنها فشلت جميعاً ولم تؤد إلى إنهاء التراجيديا الصومالية التي تتكرر مشاهدها منذ سقوط الدولة في عام 1991. لقد تحدى الصوماليون جميع التدخلات الدبلوماسية والعسكرية التي استخدمت من قبل أطراف إقليمية ودولية بهدف إعادة بناء الدولة الصومالية. وربما يعزى ذلك إلى أن أعمال المصالحة السياسية في الصومال شابها التعقيد وتضارب المصالح الوطنية والدولية، فالشعب الصومالي كان دوماً أشبه بالمتفرج الذي يراقب مباريات حامية الوطيس بين جهاديين يحاولون إقامة دولة الإمارة الإسلامية وبين من يمارسون حربا إقليمية بالوكالة وآخرين تحركهم دوافع جيوسياسية عالمية أو ما يطلق عليه الحرب ضد الإرهاب. إن الصوماليين في حاجة إلى ما يمكن تسميته ''الأخ الأكبر'' الذي لا يكون طرفاً في هذه التعقيدات والمصالح، أي أنه لم يكن جزءاً من المشكلة الصومالية من قبل وهو ما يؤهله لأن يكون مقبولاً من الجميع ويساعد على الحل. وأحسب أن تركيا بزعامة أردوغان مؤهلة تماماً للقيام بهذا الدور، فالمؤشرات العامة تفيد بأنها تحظى بقبول واسع في الصومال، كما أنه يمكن الوثوق بها من قبل كل الأطراف الفاعلة في الداخل الصومالي. أضف إلى ذلك فهي دولة مهمة في حلف شمال الأطلنطي وتتمتع بمركز قيادي في العالم الإسلامي.
وإذا كانت الحكومة التركية قد صاحبت القول بالفعل في المسألة الصومالية، حيث بدأت بالقيام بمشروعات إغاثة وتنموية، فإنها خلقت أجواء حماسية في الشارع الصومالي، فقيام رئيس الوزراء التركي بتخصيص نحو نصف حديثه أمام الأمم المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عن الصومال وكيف أن العالم بأسره خذل الصوماليين، قد جعل أهل الصومال يدركون أنهم أخيراً وجدوا ضالتهم فيمن يقف إلى جانبهم ويستعد لأن يعبر معهم إلى الصومال الجديدة.
تلك هي بعض مشاهد المسألة الصومالية التي تؤكد استباحة حرمة الأمن القومي العربي من خلال السماح بشد منطقة الأطراف الإفريقية، فالقوى الإفريقية والدولية تتداعى على الصومال حيث تتداخل الأجندات والمصالح. أما العرب فإنهم في حاجة إلى ربيع آخر يحرر حركتهم الخارجية من قيود وأغلال سنوات العجز الطويلة ويعيد أمجاد الصحوة العربية الكبرى زمن التحرر والاستقلال الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي