وقفات مع العام الهجري الجديد
ألا يلزم منا، وقد ودعنا عاماً هجرياً مضى واستقبلنا عاماً جديداً، أن نقف وقفة تساؤل، وتأمل وتدبر.. يحاسب فيها الإنسان نفسه عما اقترفه خلال عام كامل من عمره، لا ندري ما الله صانع فيه، ثم وقفة استعداد لعام نستقبله لا ندري ما الله قاض فيه.
بالأمس القريب كنا نستقبل هذا العام، وها نحن، وبهذه السرعة نودعه، وما بين الولادة والهرم ثم الموت ينتهي شريط الحياة في عجالة، ويطوى سجل الإنسان وكأنها غمضة عين، فيا عجباً لهذه الحياة كيف خُدع بها الناس، وغرهم طول الأمل فيها!
هذه هي الدنيا التي يستغرق فيها كثير من النّاس ويضيِّعون من أجلها الآخرة لينالوا بعض متاعها، ويتمتعون ببعض ملذاتها وشهواتها، هي والله سراب خادع، ولكنها سيف قاطع، كم أذاقت بؤساً، كم أحزنت فرحاً، وأبكت مرحاً، كم هرم فيها من صغير، وذلَّ فيها من أمير، وارتفع فيها من حقير، وافتقر فيها من غني، واغتنى فيها من فقير، ومات فيها من صغير وكبير، وعظيم وحقير، وأمير ووزير، وغني وفقير.
علينا أن نعلم أنّ الدنيا أيّام محدودة، وأنفاس معدودة، وآجال مضروبة، وأعمال محسوبة، هي والله قصيرة، وحقيرة وإن جلت في قلوب المفتونين بشهواتها.
قال المصطفى ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ". وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـــ رضي الله عنه ــــ قَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ــــ رضي الله عنه: "ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ". وقال عيسى - عليه السلام - لأصحابه: "الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلا تَعْمُرُوهَا".
فلنتساءل ونحن في بدايات عام جديد عن عامنا كيف قضيناه، وعن وقتنا كيف أمضيناه، وعن مالنا من أين اكتسبناه وفيم أنفقناه. وننظر في كتاب أعمالنا لنرى ما فيه سطرناه، فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه، وإن كان غير ذلك تبنا إليه واستغفرناه.
واعلموا أنّ من أكثر محاسبة نفسه ملك زمامها وخفَّ حسابه عند الله، ومن ترك نفسه على هواها فوجئ بغدراته وخطيئاته، وكثرة زلاته، فحبسه هول ما يرى من سوء الأفعال أن يجد لله جوابا عند السؤال، فثقل حسابه، وساء مآله ومآبه، فاللهم إنّا نسألك حساباً يسيراً.
وعلى كل مسلم أن يعلم أن من ثوابت هذا الدين أنّ الأعمال بالخواتيم، كما ثبت في أحاديث المصطفى الأمين ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا".
فعلينا مع مطلع السنة الهجرية الجديدة أن نتوب إليه سبحانه عما بدر منا فيما سبق، وأن نكثر من ذكره فيما بقي، فإنّ من تاب وأصلح فيما بقي غفر الله له بمنه وفضله ما مضى وما بقي، ومن أساء فيما بقي أخذه الله بما مضى وما بقي.