الاستقرار في الاقتصاد الكلي عمود فقري في الموازنة العامة السعودية

في الوقت الذي تضع فيه المملكة العربية السعودية لمساتها الأخيرة على خططها المالية لعام آخر، يقف الاقتصاد العالمي على مفترق طرق, ذلك أن العوامل الهيكلية التي أدت إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، أي الإفراط في المديونية والرفع المالي، والاختلالات العالمية المتزايدة، ما زالت بعيدة عن الانتهاء, ولم تفعل استجابة التحفيز في البلدان الغربية من جانب الحكومات سوى القليل للقضاء على التحدي الأساسي الذي يمثله الانكماش في الميزانية العمومية (دين مرتفع وقيم أصول متراجعة), وقد أدى ذلك من بعض الجوانب إلى زيادة تفاقم التحديات من خلال تحميل بعض خسائر القطاع الخاص على أفراد المجتمع، ودفع الديون الحكومية في كثير من البلدان إلى مستوى أصبح التقشف المالي معه واقعاً لا يمكن تجنبه، وهو أمر غير مرغوب فيه من منظور النمو الاقتصادي.

إن هذه التحديات الهيكلية تمثل مشكلة ليس فقط بخصوص النمو المنكمش، ولكن كذلك بسبب مخاطر الانقطاع الهائلة التي تمثلها. وتقترب نهاية لعبة أزمة منطقة اليورو، كما أن المخاطر السياسية تحوم بشدة فوق بعض الخيارات المصيرية التي تواجه صانعي القرارات. ويتمثل السيناريو المتفائل المحتمل في استمرار السير على نحو من التخبط من خلال بعض الابتكار المؤسسي، ولكن بمرافقة تقلب شديد في الأسواق. وأما السيناريو المتشائم – أي ''التفكيك العظيم''، - فيمكن أن يتضمن عجزاً خارجاً عن حدود السيطرة، الأمر الذي يطلق انتقال العدوى، ويفرض تكاليف اقتصادية فعلية يمكن أن تغرق أوروبا في حالة من الانكماش. ويتركز الاهتمام في الولايات المتحدة على السياسة بسبب الانتخابات المقبلة، ولكن إيجاد تنظيم مالي أصيل يظل أمراً خيالياً، كما كان عليه دائماً، بينما الرغبة في اتخاذ قرارات صعبة في حدها الأدنى. وحتى حين أعطت البيانات الأمريكية الأخيرة بصيصاً من الأمل، فإن المزاج هش، حيث هنالك عدم يقين رئيسي على الصعيد العقاري، وكذلك في أسواق العمل، إلى جانب أمور أخرى. وإن النظرة المستقبلية الرئيسية بخصوص الأسواق الناشئة أفضل بكثير. ولكن حتى في هذه الأسواق، فإن السلطات، سواء رغبت في ذلك، أم لا، تسير في اتجاه رفع أقدامها عن دواسة البنزين. وإن الحكومة الصينية المتخوفة من التجاوزات الناجمة عن إنفاقها التحفيزي، تبدو مستهدفة لمعدل نمو يتراوح بين 8 – 9 في المائة. يضاف إلى ذلك أن الاقتصاد الهندي يفقد قوته الدافعة، ومبادرته على صعيد السياسات. وبصورة عامة، فإن السيناريو الرئيسي يبدو أقرب إلى هبوط سلس.

بالنسبة إلى السلطات السعودية، تشكل هذه الحقائق العالمية خلفية تنطوي على تحديات فيما يتعلق باتخاذ القرارات . لقد شهدت المملكة العربية السعودية تحسناً كبيراً في النمو هذا العام، الأمر الذي يعزى في جزء كبير منه إلى الالتزامات الكبيرة بالإنفاق التي تم الكشف عنها في ربيع هذا العام وذلك على المجالات ذات الأولوية كالإسكان وإيجاد الوظائف. وسوف تظل عناصر هذا البرنامج متوسط الأجل قائمة لتدعم النشاط الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، وانسجاماً مع تعاملها خلال الأزمة حتى الآن، من المرجح أن تحافظ السلطات السعودية على قدر كبير من بعد النظر والحصافة في خططها الخاصة بالإنفاق.

ذلك أن النمو الاقتصادي خلال الأزمة كان يتوقف بشكل حرج على الإنفاق الحكومي وعلى قطاع النفط. ورغم أن تعافي القطاع الخاص أخذ يكتسب زخماً، لعل من المبكر جداً أن نتوقع إعادة سريعة لتوازن النمو في ضوء الخلفية العالمية غير الأكيدة. في ظل هذه الظروف، نستطيع أن نتوقع أن يظل الإنفاق الحكومي عند مستويات عالية حتى الآن مع افتراض احتمال أن يكون سعر النفط أقرب إلى سعر السوق مما كانت عليه الحال في السابق. ومن المحتمل أن نظل نرى تأكيداً قوياً مستمراً على النفقات الرأسمالية التي ينبغي أن تعزز الإمكانات الإنتاجية للاقتصاد مع الوقت. وسوف يتعزز موقف السياسة المالية المتساهلة من خلال تراخي السياسة المالية جراء الارتباط بالدولار وتدني احتمال تشديد السياسة المالية في الولايات المتحدة. وإذا كان هناك من شيء، فإن ميل السياسة النقدية العالمية يتأرجح مرة أخرى تجاه تحفيز إضافي.

لكن استمرار الإنفاق الحكومي، ما عدا عوامل الانقطاع الرئيسية في أوروبا (أو وقوع أمور شاذة أو غير متوقعة يصعب التنبؤ بها نهائياً في بلدان أخرى) من المرجح أن يكون مدعوماً بمرونة أسعار النفط . لقد وصل الطلب العالمي على النفط إلى أعلى مستوياته قاطبة، على نحو يعوض ويزيد عن التآكل الذي شوهد خلال الفترة التي أعقبت أزمة بنك ليمان براذرز. ورغم أن الاقتصاد العالمي الهش أدى إلى مراجعة التوقعات وخفضها، تظل النظرة المستقبلية تتسم بزيادة الطلب. ومع الصعوبة التي تواجهها البلدان المنتجة للنفط غير الأعضاء في أوبك في زيادة الإنتاج، ينبغي أن تظل أوبك في مركز بالغ الأهمية وقادرة على دعم أسعار النفط لتظل قريبة من معدلاتها الحالية. وحتى رغم أن زيادة الإنفاق في الأعوام الأخيرة رفعت سعر النفط الذي تتوازن فيه الإيرادات مع النفقات في المملكة العربية السعودية إلى 85 دولاراً أمريكياً للبرميل وربما أعلى، ينبغي أن تسمح مرونة السعر للحكومة بأن تدير فائضاً مالياً مريحاً حتى مع إمكانية انخفاض مستويات الإنتاج.
بالتالي فإن العمود الفقري الأساسي للميزانية يَعِد باستمرار الاستقرار في الاقتصاد الكلي، وإن كان ذلك على خلفية من التراجع الملحوظ في معدل النمو الرئيسي (الذي من الممكن أن ينخفض إلى أكثر من النصف عن النسبة المتوقعة لهذا العام، وهي 6 في المائة تقريباً). وحيث إن المملكة ستكون في وضع مريح بالنسبة للأوضاع المالية العامة والحساب الجاري، فإنها ستستمر على الأرجح في العمل من خلال عدد طيب من واقيات الصدمات، حتى في حالة اشتداد العاصفة الاقتصادية العالمية. لكن الحكومة ستواجه تحديات مهمة، من حيث ضمان ألا يتحول السخاء في المالية العامة إلى ''ترس وسقَّاطة''، بمعنى أن يتبين أن من الصعب عكس مسار الإنفاق الدوري حين تكون البيئة حميدة أكثر من ذي قبل. في هذا المقام، نعتبر أن المؤشرات الأخيرة على تطبيق قانون العقارات والتفكير في صكوك لتمويل المشاريع المدعومة من الحكومة، نعتبرها علامات مشجعة. وحتى مع خلفية الاقتصاد العالمي التي يحوطها اللبس، فإن تحريك المجاميع الكبيرة من رأس المال الخاص في المملكة لمساندة النمو الاقتصادي يظل واحداً من أقوى الفرص في المرحلة المقبلة. وحتى يكون النجاح حليف هذا الأمر فإن الحاجة تدعو إلى إصدار منتجات وهياكل تمويلية جديدة.

كبير الاقتصاديين في مجموعة البنك الأهلي التجاري

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي