الفتاة التي عرّت الحقيقة
لم تعد الصورة في عالمنا العربي تخضع للرقيب كما كانت لسنوات طويلة خلت، ولم يعد تفسير الصورة وتشريحها متروكا للمتخصصين أو المحللين السياسيين الذي يحاولون إيجاد التبريرات لتلك التي كانت ربما تتسرب إلى الإعلام الغربي وتصل للمتلقي العربي، والتي غالبا ما كانت تكشف سرا مهينا أو تفضح مستورا دفينا، فاليوم ومع تحول المواطن إلى صحافي والمتلقي إلى ملقن تحولت الصور إلى ما يمكن اعتباره محركا أساسيا لواقع السياسة بكل تجاذباتها المحلية والدولية وركنا أساسيا من أركان الحرب الإعلامية التي تشنها الأطراف المتخاصمة هنا وهناك.
الصور تماما كما الكلمات يمكن تزويرها في هذا العصر التقني المتحرك والمتطور بسرعة البرق، ففي أحيان كثيرة يكون التبرير الأول عند التشكيك في أي صورة تقدم كإثبات إدانة أنها تم التلاعب بها والعبث بتراكيبها وألوانها لتعطي واقعا مغايرا للحقيقة يعتمد التضليل والكذب والافتراء.
مصر التي تعيش حالة من الفوران السياسي والفكري والاجتماعي بين أطيافها المختلفة بعد نجاح الثورة التي أسقطت نظام الرئيس مبارك، ولم تسقط كما أصبح جليا للعيان نظام العسكر الذي يستمر في الحكم وريثا لثورة الضباط التي تستمر وإن تغيرت أسماء لابسي البدل، وتبدل اسم الحزب الحاكم من اتحاد اشتراكي فحزب وطني فجماعة الإخوان، أقول إن مصر في هذه الأجواء المشحونة أصبحت مسرحا حيا لحروب إعلامية تدار بامتياز من مجموعة من المحترفين والهواة دفاعا وهجوما على طرفي النزاع ''المعتصمين والثوار'' من جهة و''الجيش والحكومة'' من جهة أخرى.
صورة الفتاة التي أصبحت تعرف بـ ''فتاة التحرير'' التي نشرت مظهرة إياها وهي تسحب على الأرض شبه عارية بعد أن انهال عليها عدد كبير من العساكر بالضرب والركل لدرجة أنه لا يمكن للمتابع وهو يشاهد تلك الصور إلا أن يصدر أصواتا لا إرادية تعبيرا عن الألم والقرف والغضب.
كمتابع أحاول دائما ألا أطلق الأحكام إلا بعد أن أبحث وأشارك غيري ما يصلني من صور وأخبار ومعلومات وذلك بهدف تلاقح الأفكار والاطلاع على وجهات النظر المختلفة علها تساعدني للوصول إلى قناعة تكون مبنية على أسس لا جدال فيها، وقد أرسل لي عديد من الصور والمقاطع عبر ''تويتر'' من متابعين يقفون على طرفي النزاع المصري حول ما بات يعرف بأحداث ''مجلس الوزراء'' فتلقيت صورا تشكك في رواية المعتصمين وتظهر أن الصور والمقاطع مفبركة، بينما وصلتني صور تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الحادثة الفظيعة وقعت وأن الجيش بكل ماكيناته الإعلامية الرسمية والمغرر بها لم تتمكن من دحض الحقيقة التي حول هذه المؤسسة الوطنية المصرية المهمة إلى متهمة نخشى ما نخشاه أن تتحول مع الأيام لعدوة للشعب المصري وتثبت نظرتي من أنها وريثة نظام لم يمت بتنحي مبارك بل عاد لما كان عليه من قبله.
حاول المجلس كما يقول البعض بالدفع نحو حدوث المشاغبات التي أدت لحرق المجمع العلمي التاريخي، وذلك بهدف تشتيت الانتباه عما لحق بها من صورة سلبية نتيجة صور فتاة التحرير، وقد تناقل البعض ما مفاده أن الذين قاموا بحرق المبنى ما هم إلا بلطجية الجيش الذين صورتهم كاميرات بهدف استخدام تلك الصور لتحويل المعتصمين إعلاميا إلى مجموعة من الوحوش الساعين للفوضى، وكدليل إثبات - كما يقولون - على همجية المعتصمين.
حرب الصور هذه كسبها في تقديري المعتصمون بسبب أن الأغلبية من المتابعين شاهدوا الصور كما بدا لي بعين المحلل العاقل لا بعين الثائر العاطفي، فلقطات ركل الفتاة لا تحتمل التفسيرات، والمونتاج الذي عمل لعدد كبير من المقاطع التي حاولت تمويه الحقيقة كانت هي ذاتها ما أكد إدانة الجيش لضعف الحجة ووضوح الواقعة مما لا يدع مجالا للشك، وفي وقت لا نعلم أين ستنتهي التحقيقات في تلك الأحداث والتجاوزات ستبقى الصورة هي الوسيلة الأهم في إثبات الحق ومراقبة ومحاسبة كل من تسول له نفسه المس بإنسانية المواطن، فإن لم يكن وفق ''النظام الرسمي'' المسيطر عليه من العسكر فوفق '' نظام التاريخ'' الذي يسجل بكل أمانة ولا يمكن أن ينسى مهما طال الزمن.