الجمع بين فقه الشريعة الإسلامية والقانون
تعد الدراسات المقارنة سبيلاً للانفتاح المعرفي بين عدة جهات مترابطة ومن ذلك الجمع بين الشريعة والقانون؛ حيث إن الأحكام الشرعية العملية هي فقه تشريعي، وكذلك القانون الخاص هو فقه تشريعي، إلا أن فقه الأحكام الشرعية يستمد قوته بأن أصوله من وحي السماء، بخلاف فقه القانون الذي هو صنع البشر نتيجة التبادل الحضاري والتطور المعرفي والتاريخي والبيئة الاجتماعية والعادة الشفوية والعرف السائد، وهناك تشابه كبير في طريقة التفكير الفقهي للفقهاء واستخدام منهجية أصول الفقه في التعامل مع النصوص الشرعية وأقوال الفقهاء وبين التفكير القانوني في تفسير النص النظامي وتطبيقه واستخدام الموازنة الترجيحية، ولذلك نرى القضاء الإداري والتجاري والجزائي في ديوان المظالم يجيد الجمع بين فقه الشريعة الإسلامية وفقه الأنظمة، ومن أعظم الجهل الاعتقاد أن بينهما تضاد وتناقض في الأصول والفروع، نعم هناك اختلاف في ميزان الأوليات عند القاعدة الفقهية والقاعدة القانونية، كما أن هناك اختلافاً في بعض الفروع، إلا أن هذا لا يعد سبيلاً للتنافر، خاصة إذا كان الأساس هو تطبيق الشرع الحكيم والاستفادة من الفقه القانوني في التنسيق والتنظيم والترتيب، ولو نظرنا إلى ما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ في وضع الدواوين والتي هي من أساليب العمل التنظيمي للدولة الفارسية لكن لما رأى الفاروق ـــ رضي الله عنه ـــ مدى فائدتها عمل بها، وسعى إلى تحديثها بما يتناسب مع المجتمع المسلم آنذاك.
إن الدارس لتاريخ التشريعات يلحظ تداخل الكثير من المجتمعات والقوانين في تلك الدول وتأثرها بالشريعة الإسلامية خاصة أيام الفتوحات في وقت تمدد الدولة الإسلامية، ولذلك نشاهد تأثر القانون الفرنسي بأصول مذهب الإمام مالك بن أنس ـــ رضي الله عنه، وتم تعديل كثير من أصول القانون الفرنسي والذي هو امتداد لقوانين قديمة على رأسها القانون الروماني والمدونات القانونية مثل مدونة جوستنيان ومن أبرز ذلك ما يتعلق بالأهلية التي جعلت سن الرشد 18 سنة وهو رأي في مذهب الإمام مالك.
إن الشريعة الإسلامية هي ثروة فقهية تنطوي على عدة مدارس ومناهج ويقابلها في الجهة الأخرى القوانين الوضعية، فتجد بعض المذاهب الفقهية يقابلها كثيراً القانون الروماني أو القانون الفرنسي القديم، وتجد بعض المذاهب الفقهية يقابلها غالباً القانون الجرماني، ولو ضربنا لذلك مثالاً في معايير علاقة السببية في القانون نجد أن بعض القوانين كالقانون الفرنسي أخذ بمعيار تكافؤ الأسباب عند وجود أكثر من سبب أدى إلى الضرر، ويقابل ذلك رأي للحنابلة وقول في مذهب الشافعية، بينما نجد القانون الجرماني اختار معيار السبب الملائم الذي أدى إلى الضرر ولم يعمل كل الأسباب بل اختار سبباً من الأسباب وجعله هو السبب الملائم الذي أحدث الضرر وهذا يقابله رأي في مذهب الشافعي اختاره كثير من المتأخرين وهو رأي لبعض الفقهاء.
ولذلك لا يمكن القول إن مطلق القوانين يعارض الشريعة الإسلامية لوجود ترابط بين المذاهب الفقهية والتشريعات القانونية، نعم هناك بعض القوانين التفصيلية تخالف كليات الشريعة الإسلامية لكنها قليلة بالنسبة إلى الأعم الأغلب، والحقيقة أن أسلوب الكتابة القانونية أثر في طريقة التدوين الفقهي، ولذلك نجد مميزات النظريات الفقهية والتي هي امتداد للنظريات القانونية، وكيف أن أسلوب الكتابة القانونية طور بعض الأساليب في تدوين جزئيات الفقه الإسلامي مما أدى إلى عرض الأفكار الرئيسية لبعض المواضيع بأسلوب متماسك يربط الجزئيات بالكليات مثل نظرية الضمان والملكية والعقد والبطلان وغيرها من النظريات الفقهية.
إن الشرع المطهر يُرغب بالاستفادة من كل جديد سواء في الأفكار أو الأساليب الموضوعية والشكلية والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها.