هل وضعت حروب «الكيماويات» التجارية أوزارها؟

القرارات المتلاحقة التي اتخذها في الأسابيع الأخيرة عدد من الدول بإغلاق ملفات دعاوى الإغراق والدعم المرفوعة فيها ضد المملكة وعدد من الشركات السعودية المنتجة للبتروكيماويات تعد تطورات إيجابية تلقتها الدوائر الاقتصادية في المملكة بارتياح بالغ.

باكورة تلك التطورات كان القرار الذي اتخذته الحكومة الهندية برفع رسوم الإغراق التي تم فرضها في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 على البولي بروبلين المنتج في المملكة أو المصدر منها اعتبارا من 30 كانون الأول (ديسمبر) 2011.

تلى ذلك صدور قرار مماثل من قبل المفوضية الأوروبية بإغلاق ملف دعوى دعم ضد حكومة المملكة وإغراق ضد سابك والتي تم رفعها من قبل رابطة منتجي البولي إثيلين تريفثاليت الأوروبية في 3 كانون الثاني (يناير) 2011. واستكملت سلسلة التطورات الإيجابية بصدور قرار تركي برفع رسوم الإغراق على منتجات الإثيلين جلايكول الموردة من المملكة والتي بدأت بفرضها في مطلع عام 2010.

ولأهمية هذه التطورات المتسارعة التي تعد إنجازات مهمة تمس صناعة استراتيجية في منظومة الاقتصاد السعودي، سيتم التطرق في هذه المقالة إلى خلفية الموضوع والدلالات والدروس التي يمكن استنباطها لحماية مصالح المملكة الاقتصادية مستقبلا مع تقديم رؤية لما يمكن بناؤه على هذا الإنجاز مستقبلا.

تحرير التجارة الدولية .. بين الشعارات والتطبيق

خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية ارتفع التبادل التجاري الدولي بصورة مطردة مصحوبا بزيادة في حرية انسياب رؤوس الأموال والاستثمارات عبر الحدود، ما جعل الاقتصاد العالمي اليوم يتسم بدرجة عالية من التشابك. والتزمت الدول بموجب اتفاقيات منظمة التجارة العالمية بضمان انسياب التجارة عبر الحدود لإمداد كل من المستهلك والمنتج بخيارات أوسع من السلع والمنتجات المصنعة ومدخلات الإنتاج من المواد الخام ومستلزمات إنتاجها. وضمنت تلك الاتفاقيات وهي في أساسها عقود تكفل للدول الأعضاء حقوقا تجارية مهمة، كما تلزم الحكومات بأن تحافظ على استمرارية سياساتها التجارية في إطار حدود مقبولة بشكل يحقق مصالح الجميع. وأطرّت تلك الالتزامات باتفاقية منظمة التجارة العالمية التي أطلقت في عام 1995 والتزمت بموجبها الدول الأعضاء بمواءمة سياستها التجارية بما فيها رفع الحواجز التجارية لضمان بقاء أسواقها مفتوحة لكل من المنتجين والمصدرين بما يكفل تقليل مخاطر تحول الخلافات التجارية إلى نزاعات سياسية أو عسكرية.

#2#

ومنذ ذلك الحين أسهم نمو التجارة الدولية والتدفقات الاستثمارية في تحقيق منافع اقتصادية واجتماعية متعددة للاقتصادات المتقدمة والناشئة والنامية بنسب متفاوتة مصحوبة بتخفيض الأسعار للمنتجين وللمستهلكين وتحفيز الطلب الكلي العالمي.

وعلى الرغم من أن تبني سياسات تحرير التجارة يقلل الإيرادات الجمركية للحكومات إلا أنه في المقابل يرفع معدلات النمو والإنتاجية ويحسن تنافسية الصناعات الوطنية في بلدانها خصوصا في تلك التي تبنت استراتيجيات ''التصنيع للتصدير'' والتي أثبتت دراسات حديثة أجريت من قبل البنك الدولي تحقيقها لمعدلات نمو عالية بالمعايير العالمية.

ومع ذلك لا يمكن الادعاء بأن مبادئ التجارة الحرة يتم الالتزام بها من قبل جميع الدول في عالمنا اليوم وبالتالي من السذاجة تصور وجود تجارة حرة بالمطلق.

فالعديد من الدول في الاقتصادات المتقدمة والناهظة تخرق مبادئ التجارة الحرة بتقديم دعم فعال لصادراتها وتتبنى إقامة حواجز جمركية وغير جمركية لحماية قطاعاتها الاقتصادية الاستراتيجية للحفاظ على مصالح اقتصادية واجتماعية.

ويأتي في هذا السياق الإجراءات التمييزية من خلال اتفاقيات التجارة التفضيلية Preferential Trade Agreements التي بلغت في عام 2011 نحو 300 اتفاقية. إضافة إلى دعم الصادرات من خلال تقديم حوافز ضريبية للمصدرين Export Tax Rebates والتلاعب بمعدلات أسعار العملات بما ينعكس إيجابا على أسعار الصادرات وتنافسيتها في أسواق التصدير.

كما تتبنى العديد من الدول سياسات وأنظمة لإعاقة دخول المنتجات والسلع والخدمات إلى الأسواق المحلية تأخذ شكل تحديد سقف لمستوى الواردات بهدف لجم حركة الواردات وحماية الصناعات المحلية فيها. إضافة إلى التعسف في توظيف آليات مكافحة الإغراق التي تتيحها اتفاقيات منظمة التجارة العالمية والتي تجيز للدول تبني تدابير وقائية ضد الزيادة النسبية والمطلقة في واردات سلع معينة من بلد معين خلال فترة زمنية محددة. في المقابل تتبنى العديد من الدول إجراءات لا تتوافق مع اتفاقيات منظمة التجارة العالمية وتمثل اتجاهات ''حمائية خفية'' تتمثل في حصر المشتريات الوطنية بسوق الوطن الأم أو بلد المنشأ ذاته وإجراءات أخرى مثل تراخيص الاستيراد، والأسعار المرجعية، والمعايير والمواصفات، وشهادات المنشأ والإعفاءات الضريبية التمييزية.

الكيماويات وأنظمة مكافحة التجارة غير العادلة

عالميا، تبلغ قيمة الإنتاج السنوي للكيماويات نحو ثلاثة تريليونات دولار تشكل حصة الصادرات المباعة في الأسواق العالمية 45 في المائة من هذه الحصيلة. ووفقا للتقرير السنوي لمنظمة التجارة العالمية لعام 2011 بلغت قيمة صادرات المملكة في عام 2010 نحو 273.1 مليار دولار مثلت 2.8 في المائة من إجمالي قيمة التجارة العالمية، واحتلت المملكة المرتبة التاسعة من بين أكبر الدول المصدرة للسلع والمنتجات عالميا.

وهذه المرتبة المتقدمة عالميا تعود بالدرجة الأساس إلى تركيبة الصادرات السعودية التي يمثل الجزء الأعظم منها النفط الخام والمشتقات النفطية تليها البتروكيماويات التي حققت في عام 2010 إيرادات بلغت 47.4 مليار دولار مثلت 17.4 في المائة من إجمالي قيمة صادرات المملكة، ونحو ثلثي قيمة الصادرات غير النفطية. ويتنامى دور المملكة كمركز عالمي لإنتاج البتروكيماويات مع التوسعات والمشاريع الجاري تنفيذها والتي سترفع طاقة الإنتاجية للبتروكيماويات إلى نحو 100 مليون طن بحلول عام 2016 وبنمو نسبته 28 في المائة نسبة إلى الطاقة الحالية. ونظرا لمحدودية حجم السوق المحلية والإقليمية وتبني اقتصاديات الحجم في وحدات الإنتاج السعودية من المتوقع أن تستمر صناعة البتروكيماويات في المملكة بتبني استراتيجية ''التصنيع للتصدير'' ما يجعل من الأهمية بمكان ضمان عدم وجود قيود أو حواجز مصطنعة سواء كانت جمركية أو فنية تحول دون دخول البتروكيماويات السعودية إلى الأسواق العالمية.

لكن الأمر لا يخلو من تحديات جمة يجب أخذها في الحسبان. ففي إحصاءات حديثة لمنظمة التجارة العالمية حصد قطاع البتروكيماويات والكيماويات، وبضمنه صناعات البلاستيك والأسمدة النتروجينية ما نسبته 33 في المائة من إجمالي قضايا الإغراق anti-dumping ونحو 18 في المائة من قضايا الدعم anti-subsidy المرفوعة عالميا منذ إنشاء المنظمة في عام 1995 وهي نسب عالية. ويتضمن الجدول (1) أبرز المنتجات الكيماوية التي كانت محورا لدعاوى مكافحة التجارة غير العادلة والدول التي أقيمت فيها تلك الدعاوى.

الأسس التي بنيت عليها الدعاوى ضد البتروكيماويات السعودية..

في أعقاب انطلاق شرارة الأزمة المالية العالمية وما أعقبها من انكماش للاقتصادات العالمية الرئيسية، شهد عام 2009 تزايد وتيرة الحمائية وتبنى عدد من الدول دعاوى ضد منتجي البتروكيماويات السعوديين تحت بند الممارسات التجارية المضرة بالمنافسة العادلة. وبنيت هذه الدعاوى على ادعاء قيام الشركات السعودية ببيع منتجاتها في أسواق التصدير بسعر يقل عن تكاليف إنتاجها أو قيامها ببيع منتجاتها في أسواق تلك الدول بأسعار تقل عن أسعار بيعها في المملكة .

وتبنى عدد من الحكومات تلك القضايا وأصدرت قرارات بفرض رسوم ''إغراق'' أو تدابير وقائية Safeguards أبسط ما يمكن أن يقال عنها إنها تفتقر إلى المبررات الموضوعية أو القرائن التي تثبت حصول ضرر حقيقي Injury على الصناعة المحلية المنافسة للمنتج الإغراقي. وقامت الحكومات باحتساب الرسوم الإضافية على ضوء هامش الإغراق أو مدى انخفاض سعر المنتج الإغراقي مقارنة بسعره الذي يباع به في الدولة المنتجة، وهذه عملية يصعب تحديدها بدقة ما يجعل المبالغة سمة ملازمة لمقدار الرسوم المفروضة.

جدير بالذكر أن اتفاقية منظمة التجارة العالمية بشأن الإغراق لا تصدر أحكاما حول الإغراق وإنما تحدد كيف يمكن أو لا يمكن للحكومات أن تتصرف حيال الإغراق، بمعنى أنها تنظم الإجراءات ضد الإغراق ولا تحكم عدالتها. وأقيمت تلك الدعاوى في كل من:

• الصين التي فرضت رسوم إغراق في 2009 على منتجات الميثانول والبيوتاندايول الموردة من قبل شركات سابك وسبكيم وكانت بحدود 21 في المائة خفضت لاحقا إلى 4.5 في المائة.

• الهند التي فرضت رسوم إغراق في عام 2010 على البولي بروبلين المورد من شركات سابك والمتقدمة وبلغت نحو 54 - 186 في المائة، وراوحت الرسوم المفروضة بين 440 و820 دولارا للطن.

• تركيا التي فرضت رسوم إغراق في عام 2010 على واردات الإثيلين جلايكول بنسبة راوحت بين 4 و20 في المائة حسب هامش الإغراق.

• الاتحاد الأوروبي الذي رفعت فيه قضايا إغراق في مطلع عام 2011 ضد منتجات البولي إثيلين تريفثاليت المورد من قبل شركة سابك ودعوى دعم مقامة على الحكومة السعودية.

ومصدر الخطورة في هذه الإجراءات أن الهيئات المختصة بالنظر في الدعاوى المرفوعة اتخذت إجراءات غير مسبوقة حيث استندت على قبول الدعاوى وحساب هامش الإغراق إلى سعر خامات الإنتاج في تلك البلدان رافضة قبول أسعار المواد الخام التنافسية في المملكة المرتبطة بانخفاض تكاليف إنتاجها وتوزيعها محليا.

وتكمن خطورة تلك القضايا بتداعياتها السلبية على الاقتصاد الوطني، ففرض الرسوم على صادرات المملكة البتروكيماوية يضعف من تنافسيتها في تلك الأسواق، والأخطر منها دعاوى ''الدعم'' المقامة ضد حكومة المملكة والتي عند نجاحها تؤسس سابقة يتم القياس عليها من قبل دول أخرى، ما سيفتح الباب واسعا أمام قضايا مماثلة قد ترفع مستقبلا ضد الصادرات السعودية.

الدروس المستنبطة

نجاح المملكة في إغلاق ملفات دعاوى الإغراق والدعم الخاصة بصناعة البتروكيماويات يقدم دروسا عدة ويوصل رسائل واضحة وقوية للدول التي تتبنى إجراءات ضد الشركات السعودية المصدرة لأسواقها، مضمونها أن حكومة المملكة ستتصدى لإجراءات مكافحة الإغراق على المنتجات السعودية مع بلورة إجراءات عملية محددة ضد الشركاء التجاريين ممن يفرضون القيود على صادرات المملكة البتروكيماوية، بناء على إجراءات ''حمائية'' غير نظامية لا تتوافق مع أنظمة منظمة التجارة العالمية. وهذا النجاح بتقديري يجير لأمرين:
أولهما: توظيف ثقل المملكة الاقتصادي والسياسي لمعالجة هذا الملف بما يحمي مصالحها ولا يلحق الضرر بمصالح الشركاء. فالدول تتعامل مع قضايا التجارة الدولية تعامل مصالح متبادلة، تتراجع فيه النواحي القانونية والنظامية، وعندما تمس مصالح الدول والشعوب عبر قرارات غير نظامية تحسم المواجهات في ضوء موازيين القوى وأثرها في العلاقات الدولية.

ثانيهما: تكليف المسؤول المناسب بقيادة فريق متخصص يضمن بعد توفيق الله النجاح في المهمة الموكلة للفريق. وكان اختيار المقام السامي للأمير عبد العزيز بن سلمان لقيادة هذا الفريق اختيارا موفقا، فهو مفاوض متمرس وخبير ملم بتفاصيل وأحكام القواعد القانونية المدونة في اتفاقات منظمة التجارة. وإضافة إلى حصيلة خبراته المتراكمة من مفاوضات انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية وشبكة علاقاته الدولية، فإن رئاسة الأمير عبد العزيز للفريق وهو الذي يشغل منصب مساعد وزير البترول والثروة المعدنية لشؤون البترول أعطت للفريق ثقلا إضافيا.

ولإدراك حجم الإنجاز الذي تحقق خلال فترة زمنية قصيرة نذكر أن ملف قضايا الإغراق والدعم ضد الصادرات البتروكيماوية ظل لسنوات في أيدي جهات لم تنجح في معالجته ربما لكونها لا تمتلك ''أسنانا حادة'' أو بسبب عدم توفر الخبرات الكافية بالقانون أوالتحكيم الدولي أو الموارد المالية والبشرية المتخصصة، أو الاثنين معا ما تسبب في تزايد قضايا الإغراق والدعم المرفوعة ضد الشركات السعودية والمملكة وما لذلك من تداعيات سلبية على أداء شركات البتروكيماويات السعودية والاقتصاد الوطني.

خاتمة

الإنجاز الذي يجير للأمير عبد العزيز وفريقه يستحق الاحتفاء والإشادة به ومع ذلك فإنه يؤشر بتقديري إلى أننا كسبنا معركة وأمامنا ''حروب تجارية'' لم تضع أوزارها بعد. فمعظم الأسواق الرئيسية للبتروكيماويات السعودية تمضي قدما في بناء قدرات إنتاجية محلية ضخمة ما يرجح تبنيها مستقبلا لسياسات حمائية تتناسب طرديا مع التحديات الاقتصادية التي تمر بها اقتصاداتها ومستوى اكتفائها الذاتي.

ومن المهم ألا يكون ما تحقق من إنجاز سببا للتراخي والقبول مستقبلا بأي إجراءات أو قيود يخطط شركاؤنا التجاريون لتبنيها من أجل عرقلة دخول البتروكيماويات السعودية إلى أسواقهم. وهو ما يبرز الحاجة إلى عمل مؤسسي مستمر للتصدي لمعالجة قضايا التجارة الخارجية وفق استراتيجيات علمية واضحة.

وتبرز في هذا السياق أهمية البناء على ما تحقق من إنجاز بتكثيف الجهود لتوقيع اتفاقات التجارة الحرة بين المملكة ودول مجلس التعاون من جهة والمجموعات والكتل الاقتصادية الكبرى لضمان انسياب المنتجات البتروكيماوية إلى الأسواق العالمية دون قيود أو حواجز جمركية أو فنية.

ففي عالم اليوم الذي تحكمه وتؤطر علاقات الدول فيه المصالح الاقتصادية والاستراتيجية ليس من الخطأ استخدام ما بجعبتنا من أوراق لحماية المصالح الوطنية خصوصا عندما تكون تلك المصالح متضررة من إجراءات غير نظامية أو قانونية. فكما للدول مصالح لدينا تحرص على أعلى المستويات على عدم الإضرار بها، لدينا مصالح في تلك الدول يجب أن نحافظ عليها وننبذ جانبا موقف ''الشريك الصامت'' الذي طبع علاقاتنا سابقا مع الدول التي شنت حروبا تجارية على منتجاتنا الوطنية.

ولعلي أختم باستذكار بيت شعر من تراثنا العربي يلخص حكمة ذات صلة بالمعالجة الناجحة لملف قضايا الإغراق والدعم أثبتت صحتها على مدار السنين والمتمثلة في قول الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي