«ربيع» لوقف شيخوخة الرأسمالية الحالية
يعتمد النظام المالي الذي نتعامل به في واقعنا المعاصر ــــ أفرادا وشركات ــــ على مبدأ الرأسمالية المطلقة، ويتفاوت هذا المبدأ ـــ من حيث التقنين لا الإطار العام ــــ بين الدول الذي تعتمده ما بين موسّع ومضيّق، حيث يعتمد على العرض والطلب، ويتم التوازن بين طرفي المعادلة بناء على الظروف التي تتحكم في الأسواق، هذا إذا كانت الظروف طبيعية لا شيء فيها!
لكن المتخصصين وصناع القرار الاقتصادي أعرف من غيرهم أن أي نظام يحكم الدول "سياسياً واقتصادياً ومنهجياً" لا بد أن يخضع لأطوار التقويم، فتظهر عند التمحيص الدقيق سلبياته وإيجابياته على حد سواء، وقدر تعلق الأمر بالنظام الذي يدور موضوعنا حوله، وبناءً على العديد من المعطيات التي رافقت تطبيقه، والظروف التي صاحبت إصداره، وطبيعة الطبقات التي يخدمها، نلمس واضحاً دور الرأسمالية في أمريكا ــــ على سبيل المثال وهي سيدة الرأسمالية ــــ في فرض قانون الضرائب على الأثرياء قد استقطب تأييدا كبيراً لشريحة واسعة من ضعيفي ومحدودي الدخول وهم الطبقة المتوسطة مقابل رفض من الطبقة الغنية، وهو أمر طبيعي فطري لدى الإنسان منذ القدم.
إن من نتائج هذا النظام أن يؤول الأمر إلى حيازة ثروات هائلة لدى فئة معينة وقليلة من المجتمع، وهي الطبقة الثرية التي زادها النظام ثراء بعد الضغط على الطبقة المتوسطة والفقيرة، حيث أغفل التوازن الطبقي "عامل المجتمع" وهو الأساس في تحقيق التوازن الاقتصادي وليس فقط نظرية العرض والطلب، مع الاختفاء التدريجي للطبقة الوسطى في المجتمعات على مستوى العالم، وهذا يولد خللاً في الاقتصاد وهو ما ولد الثورات، فمثلاً: لو افترضنا أن خط إنتاج 100 سيارة يحتاج إلى 50 موظفاً، سنفترض أن العالم يستهلك أو يطلب في العام الواحد 90 ـــ 100 سيارة، ففي هذه الحال تحقق النظرية العدالة بين العرض والطلب، ولكن مع تدني مستوى دخول الطبقة المتوسطة وهي تشكل القوة الشرائية العظمى في العالم في حين لا تشكل الطبقة الغنية أكثر من 10 في المائة، والطبقة المتوسطة 50 إلى 60 في المائة من سكان العالم، بينما يعيش البقية تحت خط الفقر، فإن المعادلة تحتاج إلى علاج حتمي كي يتوازن طرفاها، ويتحقق الأمن والاستقرار.
والسؤال المطروح هو: كلنا يعلم أن نسبة الطبقة المتوسطة في انحسار مستمر، إذن ماذا سيحدث لنظرية العرض والطلب (أساس الرأسمالية) لو حدث تقلص في نسبة الطبقة المتوسطة بنسبة 50 في المائة، أي بمصطلح اقتصادي سيحدث ضعف في القدرة الشرائية عند هذه الطبقة بنسبة 50 في المائة، وإذا عدنا إلى المثال السابق فإن حصة الطبقة المتوسطة من الطلب على السيارات ستقل بنسبة 50 في المائة أيضا، أي أن 50 سيارة لن تباع، والطبقة الثرية لن تشتري سيارة جديدة سنوياً، وإن حدث أن اشترت فليس الأمر للأغلبية منهم، وعليه، وبناء على نظرية العرض والطلب فسينخفض الطلب فيقود إلى تقليص الإنتاج الذي يقود بدوره إلى الاستغناء عن 50 في المائة من العاملين على إنتاج السيارات، ويتحول تصنيف العاملين هؤلاء من الطبقة المتوسطة، إلى الفقيرة، مع استمرار هذه الحال إلى الأسوأ.
نعم، قد يكون هذا النظام - النظام الرأسمالي ـــ جيداً في السابق، ولكن اليوم أعتقد أننا في حاجة إلى إعادة النظر، وتقييم النظام من جديد، وبكل شفافية، حتى لو سببت ألماً آنياً لكنها كالعمليات الجراحية، تنتهي بعد حين ثم يستعيد الإنسان عافيته، وهذا ما نحتاج إليه اليوم لبناء نظام جديد مبني على أساس التوازن الطبقي، ويحافظ على الطبقة المتوسطة ويقضي على الفقر.
قد يسرع القارئ ويقفز إلى الحل ويقول: إن الحل هو النظام المالي الإسلامي، أو الاقتصاد الإسلامي هو الحل، لا أشك أن الله سبحانه وتعالى أعطانا الحلول في القرآن الكريم، ولكن نحتاج إلى من يفهم ويدقق قبل أن يصدر قراراً أو فتوى بجواز أو تحريم منتج معين.
إن الاقتصاد الإسلامي لا يوجد لديه المخزون التاريخي من التعاملات المالية المعقدة التي نعيشها في هذا الزمن، لكنه قادر على التعامل معها كلما تصدى لها الراسخون في العلم، وأوجدوا لها المخارج الملائمة، وهذا كفيل بأن يرفع من مستوى المجتمعات الإسلامية في الإدراك الاقتصادي بعد أن بقيت أداة من أدوات الإنتاج في حلقة النظام الاقتصادي لدى الذين تتابعوا تاريخياً على مقاليد أمور البلاد الإسلامية من الشرق والغرب.
واليوم، تشكل دول الخليج العربية ثقلاً اقتصاديا من ناحيتين: الثروات الطبيعية في المنطقة، وإحجام الصناديق السيادية، أي أن لديها قوة اقتصادية لا يستهان بها، وتستطيع الأخذ بزمام المبادرة في إطلاق نظام اقتصادي يراعي تعدد الطبقات، ويكون هدف هذا النظام الشفافية ورفع معايير أخلاقيات العمل العالية للحصول على مستوى مرموق من العدالة، وبهذا نحصل على اقتصاد أخلاقي، وهذا ما يدعو إليه الدين الإسلامي وجميع الأديان، وما ترغب فيه جميع الدول العدالة وتساوي الفرص، ولتحقيق هذا الهدف الكبير نحتاج إلى خبراء في جميع المجالات ومن مختلف شعوب العالم ليضعوا خريطة طريق لنظام اقتصادي جديد أكثر عدالة وثباتاً.