التقشف وواقعية الديون
إن عديدا من - إن لم يكن كل - مشاكل الاقتصاد الكلي الأكثر إلحاحاً على مستوى العالم تتعلق بالأعباء الهائلة التي تفرضها كافة أشكال الديون. ففي أوروبا يهدد مزيج سام من الديون العامة والمصرفية والخارجية في الدول الواقعة على أطراف القارة بإرباك منطقة اليورو. وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي، أسفرت الأزمة بين الديمقراطيين، وحزب الشاي، والجمهوريين المنتمين إلى المدرسة القديمة عن إنتاج قدر غير عادي من عدم اليقين حول الكيفية التي قد تتمكن بها الولايات المتحدة في الأمد البعيد من إغلاق العجز الحكومي الذي بلغ 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ومن ناحية أخرى بلغ عجز الموازنة في اليابان 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، حتى مع تحول أفواج متزايدة من المتقاعدين الجدد من شراء السندات اليابانية إلى بيعها.
ولكن بعيداً عن اللوم والتقريع، ماذا ينبغي للحكومات أن تفعل؟ من بين المقترحات المتطرفة ذلك العلاج التبسيطي الذي ابتكره جون ماينارد كينز، الذي يفترض أن العجز الحكومي لا يشكل أهمية عندما يكون الاقتصاد في ركود عميق؛ بل كلما كان العجز أكبر كان ذلك أفضل. وعلى طرف النقيض الآخر هناك أنصار سقف الديون الذين يريدون من الحكومات أن تبدأ بضبط موازناتها غدا (إن لم يكن أمس). وكل من الحلين سطحي إلى حد خطير.
إن أنصار سقف الديون يحاولون بشكل صارخ التهوين من تكاليف التكيف الهائلة المترتبة على ''التوقف المفاجئ'' المفروض ذاتياً عن تمويل الديون. وهذه التكاليف هي على وجه التحديد السبب الذي يجعل الدول المفلسة مثل اليونان تواجه اضطرابات اجتماعية واقتصادية هائلة عندما تفقد الأسواق المالية الثقة وينضب معين تدفقات رأس المال فجأة.
بطبيعة الحال، هناك منطق ظاهري جذاب في أن نقول إن الحكومات يتعين عليها أن تضبط موازناتها مثل بقيتنا؛ ولكن من المؤسف أن الأمر ليس بهذه البساطة. فالحكومات عادة تلتزم بعدد لا يحصى من أوجه الإنفاق الجارية المرتبطة بالخدمات الأساسية مثل الدفاع الوطني، ومشاريع البنية الأساسية، والتعليم، والرعاية الصحية، ناهيك عن معاشات التقاعد. ولا تستطيع أي حكومة أن تتخلى ببساطة عن هذه المسؤوليات بين عشية وضحاها.
بطبيعة الحال، هناك ارتباط مزدوج الاتجاه بين الديون والنمو، ولكن حالات الركود العادية لا تدوم أكثر من عام واحد، ومن غير الممكن أن تفسر الضيق والشدة لفترة تمتد عقدين من الزمان. وهذا العائق المفروض على النمو يأتي في الأرجح من اضطرار الحكومات في نهاية المطاف إلى زيادة الضرائب، فضلاً عن انخفاض الإنفاق على الاستثمار. وهذا يعني أن الإنفاق الحكومي يوفر دفعة قوية في الأمد القريب، ولكن هناك مفاضلة على المدى البعيد مع الانحدار في الأمد البعيد.
ومن الحكمة أن نلاحظ أن ما يقرب من نصف حالات ارتفاع مستويات الديون منذ عام 1800 كانت مرتبطة بأسعار فائدة حقيقية منخفضة أو طبيعية (معدلة تبعاً للتضخم). ويدلل على هذا تباطؤ النمو وانخفاض أسعار الفائدة في اليابان على مدى العقدين الماضيين. فضلاً عن ذلك فإن تحمل أعباء ديون ضخمة يفرض أيضاً خطر ارتفاع أسعار الفائدة العالمية في المستقبل، حتى من دون الانهيار على الطريقة اليونانية. وهذه هي الحال بشكل خاص اليوم، فبعد برامج ''التيسير الكمي'' الهائلة من قِبَل البنوك المركزية الرئيسية، أصبحت هياكل الديون لدى عديد من الحكومات ذات فترات استحقاق قصيرة إلى حد غير عادي. لذا فقد أصبحت عُرضة لخطر تحول أي ارتفاع حاد في أسعار الفائدة بسرعة نسبياً إلى تكاليف اقتراض أعلى.
ومع اقتراب عديد من الاقتصادات المتقدمة اليوم من مستوى الـ 90 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الذي تتسم به عموماً فترات الديون المرتفعة، فإن توسيع العجز الضخم بالفعل يُعَد اقتراحاً محفوفاً بالمخاطر، وليس الاستراتيجية الخالية من المخاطر التي يدافع عنها التبسيطيون من أنصار جون ماينارد كينز.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.