رقابة مجتمع .. لا هيئة مكافحة فساد فقط
إن الإشارة إلى مواطن الفساد في أي مكان من العالم تعني التقدم خطوة إلى الأمام في علاجه، وتوسيع مساحات الحلول على حساب الفساد حتى تضيق، ويتم القضاء نهائيًّا عليه، وهذا دأب المخلصين والمصلحين منذ الإنسان الأول حتى آخر يوم في عمر الدنيا، وبمراعاة ذلك من عدمه، راوحت الأمم بين نامية ونائمة، ومتقدمة ومتقهقرة!
في بلد الخير، وبلد الأكارم، ومشرق النور الذي شمل بإشعاعه أصقاع الدنيا، فالتمست به طريق هدايتها ورفعتها، نبت رهط يفسدون فيها ولا يصلحون، ويخربون ولا يبنون، حتى أثروا فينا، وفيمن كنا قدوة له من الأمم، وأهبطونا من مكانتنا العليا في نشر النور والرحمة، إلى جدول المنظمة العالمية للفساد، التي أعلنت احتلالنا المرتبة 57 عالميًّا! في تقريرها المنشور في حزيران (يونيو) من عام 2011، ولا تزال التكهنات قائمة في أي مرتبة يمكن أن نصل إليها في ظل هؤلاء في قابل الأيام؟
كان عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ يقول: ''رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي''، والحمد لله الذي أنعم علينا في هذا البلد بالكثير من النعم والثروات الطبيعية والأمن والأمان بدستور الكتاب والسنة، بلدة طيبة ورب غفور، وسجلت موازنة المملكة أرقامًا قياسية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي حرص على أن يعيش أبناء وطنه في سعادة ورخاء، ومن إحساسه بالعدل، أنشأ هيئة محاربة الفساد لقطع السبل أمام المفسدين.
إن الشفافية وتكافؤ الفرص هما أبرز دعائم النهضة في أي بلد، لكن يا للأسف، لدينا في المملكة تراجع في الشفافية وعدم تكافؤ الفرص، والسبب في ذلك ضعف الرقابة والأجهزة الرقابية، ولا أقصد مطلقًا التشكيك في أمانتها ونزاهتها، وإنما الإشارة إلى التعقيدات التجارية التي نمر بها في هذا الزمن، والتي جعلت من الرقابة أمرًا يحتاج إلى دقة ويقظة وفطنة وعلم، فالذي يسرق المال العام اليوم هو ليس ذلك المجرم البسيط الساذج كما كان سابقًا، وإنما هو ذلك المحتال العارف بكيفية الاختلاس أو الاستنفاع، الذي يحتاج إلى يد ضاربة توقفه عند حده، وعقابًا يستحق أن يجعل منه عبرة لكل من تسول له نفسه جر المملكة إلى ظلام الفساد والتأخر عن ركب المدينة والحضارة.
نعود إلى بيت القصيد، فالحكمة ليست في مجرد إبراز الفساد، وإنما في علاجه، لكن كيف يمكن أن نحدد خطوات ذلك يا ترى؟
لنتناول المشاريع الحكومية بشكل عام، فمعلوم أن المحرك الرئيس للاقتصاد في المملكة هو الإنفاق الحكومي، ويعني ارتفاع إنفاق المال العام بذل المزيد لخدمة أبناء هذا الوطن بجميع أصنافهم وطبقاتهم، وأحق من يتابع هذا المال ويحافظ عليه هم أصحاب المال وهم أبناء هذا الوطن، وحتى نوسع شبكة الرقابة على مشاريع الحكومة بشكل خاص، كلنا يعرف كم مشروعًا تعثر بسبب أو بآخر، وكان آخرها ما نشر في الصحف المحلية عن فضيحة القطارات الإسبانية وأسباب تعطلها المضحكة التي عزيت إلى ارتفاع درجة الحرارة، وكأن من وافق على هذه المناقصة يعيش خارج المملكة، ولا يعرف أجواءها، أو أنه لم يقرأ بنود ولا مواصفات هذه القطارات.
إن مثل هذه المشاريع هي التي تحتاج إلى رقابة مجتمع كامل، ولا تكفي فيها رقابة هيئة مكافحة الفساد، ولا رقابة ديوان المراقبة العامة.. إننا نحتاج إلى رقابة مجتمع.
ومن أجل تفعيل رقابة المجتمع على أي مشروع حكومي يجب نشر جميع تفاصيل المشاريع، إما على موقع الوزارة المعنية أو عن طريق الصحف الرسمية، وينشر معها عطاء الشركة التي فازت بهذا المشروع، ويتم ترك الباقي للمجتمع مع الجهات المعنية بالرقابة التي لا بد أن تلجأ إليهم أيضًا؛ كونهم عيون الوطن الحقيقية الأمينة لمعرفة حيثيات تطويره، وأنا على يقين أن المجتمع سيتحدث عن أي مخالفة أو تأخير في المشروع وسيتابع مدى جودته، وليس كما كان سابقًا، فكثير من العيوب تظهر في المشاريع بعد فترة وجيزة من إنجازها وصرف الملايين عليها بسبب عدم وجود الرقابة المجتمعية التي نطمح إليها.
أما مشاريع المقاولات على سبيل المثال، فالسؤال: لماذا تختص بها شركتان في المملكة فقط؟ لماذا لا يتم تأسيس شركات أخرى تتخصص في مشاريع المقاولات على غرار شركة سابك، وتكون بشكل مساهمة عامة تطرح أسهمها في سوق المال السعودية، ومن خلال هذه الشركة سنستطيع أن نوظف أعدادًا كبيرة من السعوديين برواتب مجزية، ونتوقف عن تصدير أموالنا وثرواتنا إلى الخارج عبر العمالة أو الشركات الأجنبية؟ فضلاً عن أن ذلك سيرفع من مستوى الشفافية عبر توافر القوائم المالية المنشورة للجميع، والعطاءات كذلك، من هنا نستطيع عمل مراقبة عالية على المشاريع العامة.
أتمنى أن نرى المملكة وهي تحتل المركز الأول في الشفافية وفي التنافسية ومستوى دخل الفرد، أتمنى أن يكون هذا هو المقياس الذي يتم تقييم المسؤولين في ضوئه لا غير.. إنه الهمُّ ذاته الذي يسكن عقل وضمير خادم الحرمين الشريفين الذي يحرص على العيش الكريم لمواطني هذا البلد، وكلنا مسؤول عن تحقيقه؛ لأنه بالنتيجة، لنا، ومن أجلنا، وفي سبيل رفعة هذا البلد، وعودته إلى مكانته اللائقة .. إن إحياء الرقابة المجتمعية يعني بمضمونه الشامل عدم إعطاء المزيد من الوقت للمفسدين ليحولوا دون تحقق ذلك.