متى يكشف «الستار» عن القرارات الكبرى؟
في تعقيب على مقال الثلاثاء الماضي (القصيبي مع الطريقي والعليان في كليات الإدارة)، الذي دعوت فيه إلى تدريس سير ومذكرات رجال الإدارة والمال والأعمال السعوديين في جامعاتنا، اقترح بعض قراء ''الاقتصادية'' الإلكترونية أن يتم استخلاص ''الحالات الإدارية'' من وسط سير ومذكرات أولئك العظماء. فالقارئ الكريم إبراهيم يؤكد أهمية قراءة السير الذاتية، إلا أنه يرى أننا نحتاج أكثر إلى كتابة ''الحالات الإدارية'' التي مر بها القادة الإداريون السعوديون خلال عملهم، حيث يضيف إبراهيم: ''لو وجد كتاب يحوي تلك الحالات الإدارية، فسيتيح لطلاب التخصصات الإدارية دراستها ومناقشتها وأخذ العبر منها، وتحليل القرارات التي اتخذت. خذ على سبيل المثال قرار إنشاء ''الهيئة الملكية للجبيل وينبع''، الذي كان الفضل فيه بعد الله لغازي القصيبي - رحمه الله، أعتقد أن هذا القرار لو وضع كحالة إدارية، فإنه بإمكان الطلاب مناقشة الكثير من الجوانب. على سبيل المثال، لماذا أنشئت (الهيئة) في الجبيل وينبع ولم تنشأ في مدن أخرى؟ ولماذا لم توكل الدولة المهمة لشركة استثمار بطريقة البناء والتشغيل ومن ثم تسليم المشروع للحكومة؟... إلى غير ذلك من الجوانب''.
وفي الوقت الذي يختم فيه إبراهيم تعقيبه بأمنية أن يرى قريبا صدور مثل ذلك الكتاب، يأتي القارئ الكريم راشد عبد الله الراشد مؤيدا اقتراح الأول ومطالبا ''برصد وتوثيق جميع الحالات والقرارات الإدارية حتى الأخطاء والتخبط في القرارات الإدارية كتوسع مدينة الرياض صناعيا، أو كزراعة القمح واستنزاف الثروة المائية، وغير ذلك''.
الحقيقة، أشكر القارئين إبراهيم وراشد شكرا جزيلا على فكرتهما في ضرورة رصد وتوثيق الحالات الإدارية، وأؤيد طرحهما، وأرى جدوى كبيرة من ذلك المشروع، إلا أن سير ومذكرات رجال الإدارة والمال والأعمال السعوديين لا تكفي لإمدادنا بالحالات الإدارية، إذ يجب أن ندعمها من خلال جهود الباحثين الإداريين والرجوع إلى المصادر الرسمية (الوثائق الحكومية)، وهذا لن يتحقق إلا بتذليل عقبتين هما: ضعف الأبحاث الإدارية، والمبالغة في سرية الوثائق الرسمية.
العقبة الأولى: ضعف الأبحاث الإدارية
ليس جديدا إذا قلنا إن العالم العربي يعاني تدهورا علميا وضعفا في مجال الأبحاث، من ضمنها الأبحاث في المجال الإداري. وربما يعود هذا إلى عدم قناعة بعض المسؤولين العرب بأهمية المعرفة، ما يؤدي إلى نقص في التمويل العلمي والبحثي. ويكفي أن نطلع على أحد تقارير ''التنمية البشرية'' التي تصدر منذ عام 1990م عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للتعرف على أحوال العرب مقارنة بغيرهم من الأمم الأخرى!
وطالما أن ''البحث'' نفسه غير متأصل في منظومتنا التعليمية، فلا يمكن أن نفكر في أي تقدم معرفي. حتى جامعاتنا لا توفر الأدوات اللازمة للبحث، ما يمكن طلابها وطالباتها من كتابة البحوث بطريقة صحيحة (اسألوا مبتعثينا في الخارج عن معاناتهم في هذا الصدد!)، أقلها أنه لا يوجد لدى جامعاتنا مرجع معتمد (دليل أسلوبي عربي معتمد) يلتزم به الطلاب والباحثون في كتابة البحوث، يحدد مثلا أقسام البحث، ويوضح كيفية الاستشهاد والاقتباس، واستخدام علامات الترقيم، وحجم ونوع الخط المستخدم لطباعة البحث. ولعل المتابع يرى عشوائية واجتهادات في كتابة الأبحاث من حيث المحتوى والأسلوب دون مرجعية معتمدة، إلا إذا كان كل طالب يكتب حسب أسلوب وطريقة ''مركز خدمات الطالب'' الذي يجلد فيه بحثه!
وإذا كنا أكاديميا ضعفاء في مجال الأبحاث على المستوى العربي، فإن الحال ليس أحسن حين نعد أبحاثنا عن أو من داخل المؤسسات الحكومية والخاصة. في السابق، كان معهد الإدارة العامة نشيطا في مجال الأبحاث الإدارية بجانب الخدمات الأخرى التي يقدمها كالتدريب والاستشارات والتوثيق الإداري. كنا نقرأ عن أبحاث وورقات عمل يطرحها باحثو المعهد في المؤتمرات والندوات. لكنني ألاحظ أن دور المعهد في مجال الأبحاث قد تضاءل خلال السنوات الأخيرة.. ولا أدري ما السبب!
العقبة الثانية: المبالغة في سرية
الوثائق الرسمية
تصنف الوثائق الرسمية (الحكومية) في العالم بدرجات متفاوتة من العموم والسرية، ويتم الكشف عن السرية منها بعد مرور عدد معين من السنين، وهو ما يعرف بكشف السرية أو نشر الوثائق السرية declassification. ففي بريطانيا، يتم الكشف عن الوثائق الحكومية السرية بعد انقضاء 30 عاما عليها، حيث تحال إلى الأرشيف الوطني ليتمكن الباحثون من الاطلاع عليها. وكذلك الحال، في أستراليا وأيرلندا التي تأخذ بـ ''قاعدة الثلاثين عاما''. أما أمريكا، فإنها تشترط مضي 25 عاما على الوثائق الحكومية (السرية) كي تتيحها للباحثين.
وحسب علمي لا يوجد في السعودية ''إطار زمني محدد'' إذا انقضى يكشف فيه الستار عن الوثائق الحكومية، فهل ستظل وثائقنا سرية إلى أبد الآبدين؟
فقد اطلعت على ''نظام الوثائق والمحفوظات'' الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/54 وتاريخ 23/10/1409هـ، وعلى ''لائحة الاطلاع على الوثائق والمحفوظات وتداولها'' الصادرة بالأمر السامي الكريم ذي الرقم 7/1379/م، وتاريخ 21/7/1416هـ، واتضح أنه لا توجد مدة محددة لحظر الوثائق يكشف الحجاب عنها. إذ تنص المادة ''السابعة'' من اللائحة المذكورة على أن يقوم المركز الوطني للوثائق والمحفوظات (أرشيف الحكومة) بالتفاهم مع كل جهاز حكومي لإصدار قوائم بدرجات السرية على أن تتضمن قائمة كل درجة أسماء وأنواع الوثائق السرية الخاصة بذلك الجهاز، وموضوع الوثيقة، ونوع السرية، ومدة السرية التي يمكن أن تتاح بعدها للاطلاع أو الحصول على صورة منها، وهذا يعني أن تحديد سرية الوثائق الرسمية عرضة للاجتهاد من قبل كل جهاز حكومي!
وبحسب اللائحة، تنقسم الوثائق الحكومية السرية إلى ثلاثة أقسام: (أ) وثائق ومحفوظات سرية للغاية (كالخطط العسكرية، وكميات الأسلحة، وأنواعها، ومواقعها)، و(ب) وثائق ومحفوظات سرية جدا (كالأسرار الإدارية أو الصناعية أو التجارية)، و(ج) وثائق ومحفوظات سرية (كوثائق التحقيقات والأحكام المتعلقة بالأفراد).
وبحكم التخصص، قد لا نكون مهتمين بالنوعين الأول والأخير من الوثائق، لكننا حتما مهتمون بالنوع الثاني الذي يشتمل على ''الأسرار الإدارية''.. على تلك القرارات الكبرى.. على حالات إدارية مثل: ما الظروف المحيطة بتأميم ''أرامكو'' (سعودة ملكيتها)؟ كيف أنشئ برنامج التوازن الاقتصادي؟ أو لماذا تأخرنا في خصخصة ''الخطوط السعودية''؟ أو لماذا قررنا تأسيس برنامج الخزن الاستراتيجي؟ أو كيف توصلنا إلى بناء المدن الاقتصادية؟ أو كيف اتخذ قرار إنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية؟ كل تلك مشروعات كبرى وقف وراءها رجال لا يمكن أن يطويهم النسيان اتخذوا عدة قرارات إلى أن استقروا على القرار النهائي.
أخيرا ..
لا نريد ''ويكيليكس إدارية''، ولا فضائح من خلف الكواليس، همنا الوحيد أن نستفيد من دروس الماضي. فالاطلاع على الحالات الإدارية - سواء في القطاع العام أو الخاص - يعصمنا من تكرار الأخطاء التي وقع فيها متخذو القرار في السابق، وتعلمنا كيف اتخذ القرار والظروف التي أدت إلى تفضيل ذلك ''القرار الكبير'' دون غيره من القرارات.