هل هناك منافسة بين التخصصات؟ المحاسبة كمثال
يغرد إخصائي توظيف في ''تويتر'' قائلا: ''هناك طلب عال على خريجي المحاسبة!'' فيرد عليه خريج مهندس: ''والهندسة ماذا عنها؟ انتهى الزخم؟ (خلاص!)'' لكثير من المهن زخم خاص ودورة محددة تقصر أو تطول، لكن خريج الهندسة هذا متشائم جدا. وفي حوار آخر يتكرر عند أصحاب التخصصات التي لم تكن مألوفة أو متميزة عند الجيل السابق، يسأل فيه الأب ولده عن التخصص الذي يرغب فيه، إذا كان هندسة أو كمبيوتر؟ فيرد عليه الابن: ''محاسبة يا أبي''. فيقول له أبوه: ''أتقصد: الحاسب الآلي؟'' قيقول الابن: ''كلا، محاسبة وليس حاسب''. فيأتي رد الأب المُحبِط الذي يُغضب الابن: ''إذن (كاشير)!''. يا ترى هل تستحق المحاسبة تقليلا من شأنها، أم تعظيما وتبجيلا؟ أم بعضا من الموضوعية فقط؟!
يجب أن تكون المعرفة الجيدة أساس التعامل العادل مع كل مهنة وتخصص، سواء كان هذا التعامل مجرد حديث نتعاطاه أو حتى رحلة عمر كاملة تتبع هذا المجال وتحدياته. لذا، سأستعرض باختزال شديد تطور المحاسبة وبعض تفرعاتها وواقعها لدينا اليوم. وللعلم، لا تختلف بقية التخصصات في هذا عن المحاسبة، ليس التخصصات الإدارية فقط، بل جميع العلوم الاجتماعية كذلك.
تتسع اليوم مهنة المحاسبة لتصبح مجرد فرع من تخصص أكبر يشمل مهنا مختلفة، لكنها محورية جدا لأي اقتصاد. يتخرج جميع المنتمين لهذه المهن من أقسام المحاسبة ولهم الاختيار بين مهن مختلفة كالتدقيق والمراجعة والمحاسبة المالية أو الإدارية، بل حتى نظم المعلومات أو الموارد البشرية. تطورت سابقا مهنة المحاسبة مع تطور التجارة التي تمثلت في تعاملات الإنسان وتبادلاته لحاجاته الأساسية منذ آلاف السنين. لكن كان التطور الأعظم لها في بدايات القرن الماضي عندما ازدهرت الشراكات وتجاوزت الأعمال التجارية الحدود والبحار، فكان لا بد من تطور لغة الأعمال لتسهل عملية الفهم والتواصل بين كل الأطراف. فيستطيع الشريك بذلك تقييم شراكته، والتاجر يبحث صفقته، والحكومة تجبي ضريبتها. وبالتالي، يسهل العمل ويرتفع مستوى التواصل والشفافية ويتحسن الأداء. فطورت الحكومات بمساعدة المتخصصين الممارسات والمعايير المحاسبية والرقابية التي تمكن كل الأطراف من التواصل.
تزداد المطالبة بمزيد من الأدوات الرقابية والمحاسبية عقب الأزمات الاقتصادية العالمية، وتزداد كذلك التشريعات المتعددة التي تزيد من مسؤوليات وأدوار المهنة وتجعلها أكثر تشعبا وتأثيرا. تطورت تبعا لذلك مراجعة الحسابات والمراقبة الداخلية في الشركات وأخيرا، الحوكمة. وبعد تزايد اعتماد المنشآت على الأنظمة المعلوماتية المعقدة، أصبح للمحاسبين دور جوهري جديد، فَهُم أكثر المهنيين دراية بمسارات المعاملات وتتابع الإجراءات - خصوصا المالية - داخل المنشآة. فنشأ ما يسمى نظم المعلومات المحاسبية التي تحدد هذه الإجراءات وتصورها على دورات، كدورة المبيع ودورة التحصيل. يبرع المحاسبون كذلك في التحليل المالي، الذي يعد من الممارسات المالية وليس المحاسبية، إلا أن المحاسب هو من يُعدّ هذه المعلومات، لذا من الطبيعي أن يكون مِن أفضل من يحللها و يُخرج منها المعاني والخلاصات. يتميّز خريج المحاسبة في أنه قادر على استيعاب كل أساسيات التخصصات الإدارية الأخرى، بينما لا يتمكن أكثر أصحاب هذه التخصصات من الإلمام بالمحاسبة وقد يُعجزهم أبسط القيود المحاسبية.
كانت المحاسبة، خصوصا مراجعة الحسابات، هي كبش الفداء في الأزمات المالية للشركات لأنها تشكل حجر الزاوية في عملية المراقبة والإفصاح المالي. وهذا على الرغم من أن هذه المهن لا ترتبط كثيرا بقدرة الإدارة على النجاح تجاريا. قد تكون المحاسبة مهنة مملة في نظر البعض – وهذا يخالف واقعها الماتع والمملوء بالتحديات- وقد تُصوّر كذلك بأنها جنة المختلسين – وهذا ناتج من ضعف الرقابة وعدم اتباع أصولها بدقة والتزام. لقد تطورت المهنة على مر السنوات وأصبحت من أكثر المهن عناية بمتطلبات الاستقلالية والنزاهة، ومعاييرها المكتوبة والمدروسة بعناية تثبت ذلك ليبقى التطبيق رهنا على الممارسين لها وفي حاجة مستمرة إلى متابعة ووعي المستفيدين منها.
على الرغم من إطلاق لفظ ''محاسب'' على وظيفة المحصل النقدي ''الكاشير'' في منافذ البيع إلا هذه الوظيفة لا تمت للمحاسبة بصلة، وهذا لا يقلل من قيمتها كوظيفة محترمة وذات أهمية ومعايير خاصة. في بيئتنا المحلية اليوم، يزداد الطلب على وظائف ومهن الدعم الإداري ومن بينها المحاسبة التي تتميز، بكل تفرعاتها، بمعدل طلب عال نقلها من خارج دائرة الضوء (بل من الاستنقاص والتجاهل) إلى موقع مغر جدا بين التخصصات ذات المردود المجزي والفرصة الطيبة. بل إن فرص خريجي المحاسبة في تزايد، وذلك لأن المهن التي يستطيع الانضمام إليها لا تزال مشغولة بنسب كبيرة من الوافدين، ولا تنتظر إلا وجود الخريج المؤهل الطموح لتتعجل عملية الإحلال الحاصلة حاليا.
لا توجد أي منافسة بين المحاسبة والهندسة، ولا بينها وبين بقية التخصصات، بل هو على الأحرى تكامل يتجلى بتأهيل من يحمل هذه التخصصات. فخريج المحاسبة يملك مجموعة كاملة من المجالات التي تقع ضمن دائرة اختصاصه، وزيادة الطلب عليها لا تعني قلة الطلب على التخصصات الأخرى. واقعنا الاقتصادي اليوم يتطلب وجود جميع المؤهلين بمختلف التخصصات دون أي أفضلية أو تحديد، من الطب حتى الفنون. هذا بالتأكيد بدون إنكار لاختلاف طبيعة التخصصات وطبيعة المهن وفرص العمل التي لا تطرح إلا في أماكن وأوقات محددة. ختاما، كما يجب أن يحدث في كل مهنة وتخصص، لا بد من أن تكون هناك رؤى وخطط لتطور هذه المهن حتى تتمكن هي بدورها من خدمة التنمية، تبدأ من قبل المراحل الجامعية وتزدهر في أقسام الجامعات وتنتهي في الجمعيات المهنية. ولا يغيب بالتأكيد دور الشخص نفسه حامل التخصص الذي يجب أن يعمل ويجدّ ليرفع من قدراته وقدرات المجال والمنظومة التي ينتسب إليها.