تفويض الصلاحيات.. جوهر «اللامركزية»
بدءا من هذا العام الهجري الجديد (1434هـ)، منحت ''وزارة الخدمة المدنية'' فروعها ومكاتبها في مختلف مناطق السعودية ومحافظاتها صلاحيات لأول مرة في تاريخها، وتشمل هذه الصلاحيات: الترقيات والنقل والتسجيل والإجازات الاستثنائية للمرتبة العاشرة فما دون، وهي صلاحيات كانت مقصورة على إدارات مركزية في الوزارة.
وعلى المنوال ذاته، منحت ''وزارة التربية والتعليم'' مديري التربية والتعليم في المناطق والمحافظات عددا من الصلاحيات الإدارية والمالية والتعليمية والمدرسية، كانت في السابق محصورة في يد كبار مسؤولي الوزارة، من بينها منح الإجازات الاستثنائية، والموافقة على دراسة الموظفين خلال الفترة المسائية، بل مخاطبة شركات الاتصالات في المنطقة لإيصال خدمتي الهاتف والإنترنت إلى المدرسة!
شخصيا، استبشرت خيرا بهذين القرارين، فتخويل الصلاحيات - من المستوى الإداري الأعلى إلى الأدنى - يعكس توجها جديدا في القطاع العام السعودي، هذا القطاع الذي تحدثنا مرارا عن حاجته إلى مبادرات للتغيير الإداري والتنظيمي تغربل الموارد البشرية والمؤسسات والقوانين والسياسات والإجراءات والعمليات (أكثر من 120 مبادرة من تلك المبادرات في جعبتنا، بعضها منشور في ''الاقتصادية''). وتتضاعف الحاجة إلى هذه المبادرات إذا علمنا أن في السعودية 23 وزارة، و13 منطقة إدارية، وفي كل منطقة فرع لكل وزارة (بخلاف الأجهزة الأخرى)، ما يعني أن لدينا 299 فرع وزارة داخل البلد، وهذا يدفعنا حقا إلى نبذ البيروقراطية العقيمة وتغيير نهجها الإداري، عن طريق حلول منها تفويض الصلاحيات والجنوح نحو اللامركزية.
فالمركزية - الأسلوب الإداري الذي يركز سلطة اتخاذ القرار (الحل والربط) في مستويات إدارية عليا - تشكل نصف البيرواقرطية، والتخلص منها يساعدنا على التخلص من البيروقراطية التي عطلت التنمية وجذبت الفساد، وفق المعادلة التالية:
- مركزية القرار لدى المسؤولين + انعدام الإبداع لدى الموظفين = البيروقراطية = تعطيل التنمية + جذب الفساد
ولأنه لا يوجد مسؤول - قائد مؤسسة أو أحد مديريها - يستطيع وحده أن يؤدي كل مهام العمل بنفسه، فإنه بحاجة إلى الاستعانة بعدد من الموظفين الذين يعملون لتحقيق أهداف المؤسسة، وهذا يستلزم تفويض أولئك الموظفين بصلاحيات مثلما يتم تكليفهم بمسؤوليات.
ويشكل تفويض الصلاحيات جوهر ''اللامركزية'' التي تدفع المستوى الإداري الأعلى إلى تفويض بعض من صلاحياته إلى المستوى الإداري الأدنى. أما الصلاحية، فهي بكل بساطة سلطة اتخاذ القرار (سلطة البت)، وقد يكون هذا القرار إداريا (تعيين، ترقية، نقل، تدريب، وفصل) أو قرارا ماليا (شراء، بيع، صرف، قبض، وتعاقد).
غير أن التفويض يرتبط دوما بمدى ''ثقة'' المستوى الإداري الأعلى بقدرة المستوى الإداري الأدنى منه على ممارسة تلك الصلاحية بصورة مرضية. لكن الجميل في أمر ''تفويض الصلاحيات'' أنها عملية إدارية تتيح الفرصة لتعليم وتدريب ''المرؤوسين'' على اتخاذ القرار وحل المشكلات، خاصة إذا كان ''المدير المفوض'' (صاحب الصلاحية الأصلية) يتابع عن قرب مستوى أداء المرؤوس، ويرشده دائما، وينبهه على الأخطاء التي يرتكبها ليتفادى (المرؤوس) الوقوع فيها مستقبلا. فكلما شعر المدير بحسن تصرف المرؤوس بالصلاحية الممنوحة وقدرته على اتخاذ القرار، زادت ثقة المدير بالمرؤوس، وبالتالي يطمئن الأول أكثر فيمنح الأخير مزيدا من الصلاحيات.
وفي تصوري، لا مخاطر تنطوي من عملية ''تفويض الصلاحيات'' إذا تمت بطريقة سليمة، وجرى منح الصلاحيات للمرؤوسين المؤهلين. فالرؤساء في العمل الذين يبدون تخوفا من التفويض يعانون تجارب مريرة غالبا بسبب سوء اختيارهم للأشخاص الممنوحين للصلاحيات. لهذا، فإن الطريقة السليمة للتفويض تراعي جوانب عدة منها:
- تحديد الصلاحيات المراد تفويضها (ما الصلاحيات؟): يجب حصر الصلاحيات التي تمارس في المؤسسة، وتصنيفها إلى صلاحيات إدارية أو مالية (أو أي تصنيف آخر يتلاءم مع طبيعة المؤسسة).
- تحديد حالات وأوقات التفويض (متى يتم التفويض؟): في بعض الحالات، يكون تفويض الصلاحيات ساريا عند غياب المدير أو حتى أثناء وجوده على رأس العمل.
- تحديد الأطراف المعنية بالتفويض (من سيفوض من؟): يتم توزيع الصلاحيات وفق المستويات الإدارية المختلفة بما يتيح المرونة في العمل وسرعة اتخاذ القرار، على أن يتم تحديد المرؤوسين الجديرين بتفويض الصلاحيات.
- تحديد كيفية تفويض الصلاحيات؟ (كيف سيتم التفويض؟): ما الآليات والطريقة التي يتم بها تفويض الصلاحيات؟ ما الحدود الفاصلة بين المسؤوليات والصلاحيات؟
إننا ندعو كل أجهزتنا الحكومية – بل حتى المؤسسات الخاصة – لأن تعمد إلى ''اللامركزية''، وتحتذي بتجربتي الخدمة المدنية والتربية. بل إننا نطمح من وزارة الخدمة المدنية - بحكم أنها الجهة المشرفة على تطبيق نظام الخدمة المدنية ولوائحه التنفيذية، وبحكم عضويتها في مجلس الخدمة المدنية – أن تقود حركة إدارية واسعة النطاق نحو ''اللامركزية''، حيث تمنح الأجهزة الحكومية مزيدا من الصلاحيات وتشجعها على منح وحداتها الإدارية المزيد من الصلاحيات .. فهل تفعلها الوزارة التي تشهد أروقتها فكرا جديدا منذ نحو عام؟