ما الفساد الذي يجب أن نحاربه؟ (3 من 3)

ختمت المقال السابق بذكر مثل جميل يقول: ''ماذا يأخذ العريان من المتزر''، وهو مثال وجيه ينطبق بشكل واقعي على العلاقة بين الأجهزة الرقابية الحكومية بما فيها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والموظف، لأن الاستمرار في المراقبة السلبية المتمثلة في تصيد الأخطاء والعثرات دون العمل على علاجها العلاج الجذري المانع لاستمرارها أو بقائها أو حتى خمولها سيجعل من العمل الرقابي التطويري عملا ضعيفا هزيلا، وخير مثال على ذلك ما نراه من العدد الكبير من الأجهزة الرقابية، المدنية والأمنية السابقة واللاحقة لعمل المؤسسات الحكومية دون أي جدوى بالأمر ما زال للأسوأ فالمشاريع مثلا ما زالت بين متأخرة ومتعثرة ومتوقفة، وما زال الفساد في نمو والفساد هنا ليس بالضرورة كما يعرفه البعض الرشوة المالية، لكنه الفساد المعطل للاستفادة من المشاريع التنموية المهمة التي تكلف خزانة الوطن المليارات التي لا يمكن تعويضها.
إن الطرح السابق في المقالين إيضاح لمعاناة المؤسسة الحكومية بشهادة أهلها والعاملين فيها، وهذه الشاهدة تقودني إلى طرح الفكرة الأساسية من كتابة هذه المقالات وهي كيف نجعل من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هيئة قريبة من الجميع وقادرة بعد توفيق الله -سبحانه وتعالى- من أداء عملها بالشكل الذي يحقق القضاء على الفساد وليس مكافحته فقط؟
إن الرؤية التي أراها في هذا المجال هي تحويل الهيئة من جهاز رقابي على الفساد إلى جهاز إصلاح، والإصلاح هنا معناه معرفة أسباب الفساد والعمل على معالجته وتقديم النصح والمشورة لمتخذ القرار في أفضل الطرق لتلك المعالجة، أما ما نراه اليوم من إعلانات وإرسال مناديب ومراقبين لكل مشروع ينفذ في رأس جبل أو أسفل واد أو في قرية نائية وتضخيم جهاز الهيئة بالعاملين والمهندسين وكبارهم، ما يؤدي إلى إنشاء جهاز حكومي سينمو ويتضخم ثم يترهل ويصيبه ما أصاب بعض الأجهزة الحكومية من بعض الفساد والبيروقراطية السلبية التي لن تخدم الهدف الأساسي من إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
إن الهيئة في هذه المرحلة ليست في حاجة إلى الجري خلف كل مشروع متعثر أو متأخر أو خلف كل موظف في كل إدارة حضر أو غاب، استلم سيارة من إدارته أو من المقاول أو... أو...، إن الهيئة والوطن كله في حاجة ماسة كما ذكرت سابقا إلى تشخيص أسباب الفساد وتقديم العلاج الناجح القاضي على المرض، والهيئة بكفاءاتها المعروفة والمتميزة قادرة -بإذن الله- على تحقيق ذلك خلال فترة زمنية قصيرة من خلال التشخيص السليم لحقيقة المشكلة ثم تقديم المبادرات العلاجية العاجلة لإصلاح الخلل وتحسين الصورة وإعادة الثقة للمؤسسة الحكومية والعاملين فيها ثم العمل من خلال برنامج طويل المدى للارتقاء بالعمل في مختلف قطاعات الدولة وليس القطاع الحكومي فقط، لأن منظومة الفساد والمفسدين منتشرة في قطاعات الدولة الحكومية والخاصة والإعلامية والأكاديمية حتى مؤسسات المجتمع المدني الخيرية وغير الخيرية.
لقد سبقت لي الكتابة كثيرا عن الخلل الإداري والمالي والوظيفي والعمل في المؤسسة الحكومية بشكل خاص وبقية قطاعات الدولة بشكل عام، ولعل مقال ''العمل الحكومي ومثلث برمودا'' خير مثال لتشخيص حالة المسؤول الحكومي غير المنتج المتمثل في مقولة: ''لا تعمل حتى لا تخطئ ''ثم تحاسب'' وأيضا ما يعززه من فكر إداري ترهلي المتمثل أيضا في خوف العديد من المسؤولين من مجابهة الفساد والمفسدين حتى لا يتعرضوا للمضايقة والشكاوى والاتهامات، خصوصا في عصر الانفلات الإعلامي من خلال الإعلام المجتمعي المتمثل في ''تويتر'' و''فيسبوك'' وغيرهما التي يعمل فيها جنود مجندون لمحاربة كل محارب للفساد وأهله من خلال إطلاق الشائعات والتهم ونشرها بين الجميع، بحيث يجعلون من كذبهم المعزز بالوثائق المزورة والمشوهة وهي طريقة فاعلة في تحجيم قدرة المسؤول على أداء العمل بالشكل الذي يرضي الله -سبحانه وتعالى- قيادة ومواطني هذا الوطن الغالي والأمثلة في هذا الشأن كثيرة، ويمكن للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد معرفتها ودراستها ضمن منظومة برنامج الإصلاح التنموي الذي أتمنى أن ترعاه الهيئة، كل ما ذكر خلال ثلاثة مقالات ما هو إلا خواطر تحكمها المساحة المعطاة للطرح والوقت الذي يمنحه القارئ للمقال، لكن أرجو من الله -سبحانه وتعالى- أن تجد الأذن الصاغية القادرة على إيجاد العلاج الإصلاحي الصالح لجعل كل مواطن سعودي إنسانا صالحا منتجا في كل القطاعات والمؤسسات والمدن والقرى. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وأن يكلل جهود زملائنا في الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وبقية الهيئات الرقابية المدنية والأمنية بالتوفيق والسداد، والله من وراء القصد.

وقفة تأمل

لعمرك ما شيء من العيش كله
أقر لعيني من صديق موافق
وكل صديق ليس في الله وده
فإني به في وده غير واثق
صيفي من الإخوان كل موافق
صبور على ما نابه عند الحقائق

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي