ضد الصنعة الإلهية !!
نؤمن بأن للبنان بصمة، وأن للعين بصمة، وأن الصوت بصمة، وأن للحمض الوراثي «DNA» بصمة.. ولا يعترينا أدنى شك في تفرد كل إنسان ببصماته، بما يعني استحالة التطابق بينه وبين أي إنسان آخر، وهو أمر دفع البشرية إلى الاستسلام للنتائج التي تفضي إليها هذه البصمات يقيناً بأنها لا تنحرف.
لكن هذه الثقة في معطيات بصمات اليد والعين والصوت.. الخ، تتبدد حين نتعرض لبصمة أشد خطورة وأعظم أثراً، ألا وهي بصمة العقل المتضح أثرها في عمل الجوارح كافة.. فكراً، وحديثاً، وكتابة، ورؤية، ومنهجاً، وطريقة حياة تتأثر بكل ذلك، إذ نُصرُّ دائماً على صبِّ العقول في ذات القوالب القديمة لافتقادنا إلى شجاعة مواجهة الاختلاف وإن أبدينا عكس هذا في العلانية!.
عجيبٌ جداً أن نتوجس خيفة من ذاك التباين الذي قامت عليه العقول بفعل صانعها - سبحانه - لعلَّة وحكمة، ثم نمضي في ممارسات مضادة لهذه السنة المتجلية في خلق البشر، فنمنع، ونصادر، وننهر، ونضرب، ذلك لأن عقولاً جديدة قد أنتجت أفكاراً على غير ما نهوى، دون أن نحتكم إلى معيار عادل وشفاف يزن الأفكار بميزان الحق، تمهيداً لدفعها في مساراتها الصحيحة.
إن المجتمعات التي تحيا في أحضان التخلف وتحت رايات الطائفية والعنصرية والفئوية، بثياب جديدة لجاهلية قديمة، هي التي تتبني تلك الأساليب الإقصائية، فيما بين فرقها المتصارعة، وفيما بينها وبين الآخرين، كي لا يكون للفكر المستنير أثر في مواجهة مكتسبات الفرقة والشرذمة، التي يخطي بها أفراد يحركون في النفوس نزعات الجاهلية الأولى، من قبلية دميمة، وعصبية ممقوتة.
ولا شيء يساوي الخوف من عمل العقول وإبداعها - في نظري - إلا ذعر الخفافيش والصراصير من ضوء الشمس، وهو مسلك يفسر محبة السير والعمل في الظلام لمن فقدوا القدرة على إبداء المنطق والحجة في مواجهة المعطى الجديد المتمثل في رغبة العقل في وضع بصمته على جبين الحياة، ليعبر عن فطرة مكنونة في تكوينه وتركيبه، ليقدم إضافة أو تطويراً إلى المتراكم من المعارف والأفكار والأساليب، ولكن الانغلاق والتحجر والعصبية وإدعاء امتلاك الحقيقة يحول دون ذلك، لتعيش العقول كبتاً يدفعها إلى الشطط أو الهجرة.
لقد خُلقنا بفطرة تدفعنا نحو شوق دائم لتحقيق الاكتمال، ومن عجب أن تلك الحاجة لا تُلبى إلا بالتصاق فرد بفرد، أو فرد بمجموعة أفراد، أو مجموعة بمجموعة، وهكذا، وكأن من قدرنا أن نعيش في حالة احتياج مستمرة لبعضنا البعض، كي يتعطش كل منا إلى الوحدة والترابط، في مشهد فطرى يعلن عن ثورة تلقائية على كل صور الفردية والتشرذم.
ولأن البعض لا يروق لهم أن تمضى الحياة على هذا النسق الرباني الجميل الذي لا مجال فيه «للأنا»، فإنهم لا يدخرون وسعاً في إثارة الضغائن عبر النفخ في أبواق التعصب الممقوت، ليس بالقرع على طبول الحرب كما الحال قديماَ، وإنما بالعزف المُتقن على النزعات الفردية والفئوية، مع إلباس ما يقومون به ثوب التعددية أحياناً، وثوب الحرية أحياناً أخرى، أو ما شابه ذلك من مفردات براقة وجذابة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
والحقيقة أن حيل الناخرين في لُبٍّ التماسك بين الناس كانت ذكية للغاية، فمن نقطة التنوع في الرؤى، واختلاف وجهات النظر، انطلقوا.. لا ليجعلوا من ذلك طريقاً لإثراء وتعميق التجارب الإنسانية التي تصب في صالح المجموع، وإنما ليجعلوا ذلك وسيلة لإثارة الأحقاد والفتن، وسكيناً لتقطيع المجتمع إلى تحزبات وفرق، يُنتصَرُ لها ولو على حساب الحقيقة المجردة!.
إن أحضان الأوطان تتسع لأفكار الجميع وآراء الجميع.. فقط نحتاج إلى أن نفهم ذلك.