الشكُّ.. بين الإفراط والتفريط

الشك عادة بشرية ترتبط بوجود الإنسان على الأرض، وهو يتباين صعوداً وهبوطاً من إنسان إلى آخر، فقد يكون صفراً عند السذج أو البسطاء، أو المهملين، الذين ليس لهم في الحياة نظرة ولا فيما يجرى بدروبها فكرة، وهم الصنف الذي أراح الرأس مما يجرى وتركوا الأمور تجرى في أعنتها بلا أدنى اكتراث.

وهناك صنف آخر تحول الشك لديه إلى كابوس يطارده أينما ولى وجهه، فهو يشك في نفسه وفى طعامه وفى شرابه وفى ملبسه، ويشك في معتقداته وقيمه وثوابته، ويشك في أهله وناسه وعشيرته، ولا تكاد تمر من أمامه هفوة إلا وأطلق ورائها شبح الشك ليفحص زواياها ويقيس أبعادها، ومع هذا الصنف يكون الشك مرضاً وداءً عُضالاً يستوجب العلاج.

وبين تفريط الفريق الأول وإفراط الفريق الثاني، يبدو فريق ثالث يمارس الشك الإيجابي، الذي يحمل صاحبه على التأمل والمشاهدة، والنقد والمقارنة، من أجل استنباط فكرة، أو استخلاص معلومة، أو تعلم درس، أو التثبت من حقيقة، وهو شك لا يتخطى حدود الفهم البشرى، ولا يتجاوز مقدرة العقل على البحث والتحليل، ومن ثم فهو يتصل بالواقع وبالحياة، ولا يتطرق إلى الثوابت والمعتقدات، كما لا يتطرق إلى البحث في الأمور الغيبية التي حجب الله أسباب كشفها عن عقول ومقدرة عباده، لتبقى منطقة الإيمان بكلام الله ورسوله هي المنطقة الحاكمة لتصور وفكر الباحث في هذا السياق.

في واقعنا المعاصر احترف أفراد، واحترفت جماعات ودول مهنة تصدير الشك المَرضى إلى قلوب الناس عبر وسائل متعددة، بل لقد تحول الشك إلى صناعة رائجة تحرز من النتائج ما لا يحرزه المدفع والصاروخ على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وما زلزلة الإيمان بالقيم الدينية والوطنية، وإحداث الفتن بين طوائف وشرائح المجتمع، والانزلاق إلى منطقة القدح والسب السياسي، إلا إفراز خفي لهذا الصناعة التي تدور رحاها وراء الكواليس بمهارة وإتقان.

في المدرسة، بينما كانت عقولنا غضة كالأرض البكر، نثر أستاذي في مادة العلوم - له منى خالص الدعوات حياً كان أو ميتاً - في عقلي وعقل زملائي مفهوماً يمكن أن نسقطه على قضية الشك، إذ علمني أن الماء الذي لا يتحرك يأسن، يعنى تتغير معالمه الطبيعية، ويصبح ضاراً بالبشر، لكنه علمني بالمحاذاة لذلك أن الماء الذي تكتنفه الشوائب يجب أن يسكن حتى ترسب شوائبه بالقاع، وهنا لا يجب أن يُرجَ الماء أو يُهز كي لا تنتشر به الرواسب مرة أخرى فتفسده بعد أن صَلُح، وتعكره بعدما صَفا، وبين الركود والهز العنيف منطقة الجريان وهى المنطقة المثالية لاستمرار حيوية الماء وصفائه.

والمعنى الذي أرمى إليه لا يخفى على القارئ بكل تأكيد، إذ أنى أكره بطبيعتي أسلوب إثارة الشكوك، خاصة فيما يتعلق بنوايا الناس وخفايا ضمائرهم، لأنه لا سبيل إلى إدراك المقبور والمستور في قلوب الناس، حيث لا يعلم ذلك إلا خالقهم، ورغم ذلك نال الحديث بمختلف ألوانه عن تفسير نوايا الناس خاصة المشهورين منهم مساحة كبيرة من الوقت والجهد عبر صحف ومجلات ومدونات وفضائيات، ولا أدرى ما هو الهدف النهائي من وراء تلك الزوابع التي لا أصل لها ولا هدف.

ربما يكون المقصد هو جذب انتباه الجمهور للإقبال على السلعة الإعلامية عبر إضافة بعض التوابل، دون أدنى اهتمام لما يترتب على تلك التوابل من آثار وتداعيات نفسية واجتماعية على المدى القصير والطويل، وهنا لا يكفى التذرع بالسعي لكشف الحقيقة، ولا مشاطرة الناس محنهم، فرغم وجاهة تلك المبررات إلا أن الحقيقة الدامغة هي أن العزف على أوتار المشاعر صار غاية في كثير من الكتابات والمحاورات والمناقشات من أجل استقطاب أكبر قدر من الجمهور عملاً بالمثل الدارج «خالف تُعرف»!.

إن خلق دوامات الشك حول كل الأشياء يعد من - وجه نظري - صناعة إلهائية، تصرف الناس بقصد أو بغير قصد عن أعمالهم المكلفين بها، من خلال إيجاد حلقات من الثرثرة والجدال في أماكن تجمعاتهم وأعمالهم، والمحصلة إضاعة الوقت بلا ثمن فيما لا يفيد، واذكر لذلك أمثلة:-

الأول: من الناس من أشهر قلماً، وقال إنه كاتب ينقل للناس الحقائق المجردة، ويعلن عليهم كل الخفايا بكل شفافية، ويبرز أمامهم كل الخطايا بكل نزاهة، ويكشف لهم ستر المفسدين بلا تمييز، وهو في حقيقة الأمر لا يفعل شيئاً من ذلك، إذ نشر الأكاذيب بلا ضمير، ونثر الشائعات فوق رؤوس البشر بلا مسئولية، وأساء بقلمه إلى من لا يستحقون الإساءة، وحَرَّف الكلام وشخص مراميه على نحو أعوج، في رحلة للبحث عن الشهرة وذيوع الصيت، وذلك كله تحت مبرر السبق الصحفي، والسبق الصحفي بريء مما قال، وكتب، ونشر، براءة الذئب من دم بن يعقوب.

الثاني: ومنهم من لقب نفسه بمفكر أو باحث، ثم راح يعبث في ثوابت الدين والعقيدة، بإطلاق آراء تدعو للجدل والمراء حول قضايا ثابتة وواضحة لا تحتمل التأويل ولا الاجتهاد، والأدهى والأمر أنْ فتحت صحف وفضائيات ذراعيها لهذه الخزعبلات، فأشاعتها بين الناس بلا وعى ولا فهم، رغم أنها أراء تحمل الناس على الشك في ثوابت الدين ذاته.

الثالث: ومنهم من تصدى للفتوى وهو ليس من أهلها، وقال في الدين وهو غير مؤهل، فشكك البسطاء - وما أكثرهم - في شأن دينهم، وللأسف الشديد شهدت الآونة الأخيرة فوضى عارمة في مجال إصدار الفتوى، حتى تملكت الحيرة قلوب الناس من كثرة الفتاوى والآراء، والأمر على هذا النحو يشكل مصدراً رحباً من مصادر الشك الذي يهز الإيمان والعقيدة.

إن الشك المفرط آفة شيطانية أصاب بها إبليس قلوب البشر ولا يزال، انتقاماً منهم وحقداً عليهم، إذ كان أبوهم آدم - عليه السلام - سبباً في طرده من رحمة الله لما عصى أمر الله فيه، فأبى واستكبر واستعلى، ورفض أمر الله بالسجود له، ولذا قطع إبليس العهد على نفسه أن يُضل البشر عن جادة الحق، وعن الصراط المستقيم، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بالوسوسة والإيهام والتزيين، فمن ساعد الشيطان في مهمته فهو من حزبه ومن أنصاره، ومن ناهض الشيطان فقد انتصر عليه في جولة من المعركة الأبدية بينه وبين بني الإنسان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي