كيف حاصرت السياسة المساجد ؟!

هي المرة الأولى التي يُحاصر فيها مسجدٌ في مصر بعد سنة 1979. في الإسكندرية كان الحدث المؤسف، والمكان كان مسجد القائد إبراهيم ، والهدف كان الشيخ المحلاوي، والغاية المستهدفة حمام من الدَّم مصنوع بأيد مصرية خالصة، في وقت كَلَّتْ فيه أيدينا عن كل شيء إلا إراقة دماء بعضنا البعض!.

في مصر الغالية، وعقب ثورة 25 يناير سقطتْ هيبة المؤسسات المدنية للدولة سقوطاً مدوياً، بداية من مؤسسة الشرطة، ومروراً بمؤسسة رئاسة الوزراء، ووصولاً إلى مؤسسة رئاسة الجمهورية، إذ لم يَعد عَصِيِّاً على أحد أن يفعل ما يشاء أمام هذه المؤسسات بلا حياء ولا خوف ولا رادع.

ولم يَدُرْ في خلدي لبرهة أن يزحف هذا المشهد البذيء إلى بيوت الله، فيُحَاصَرُ مسجدٌ بالسلاح وتُقذفُ نوافذه بالحجارة، ويُحتجز بداخله شيخ وجمع من المصلين عاشوا لساعات طويلة تحت ضغط الترويع وهاجس الموت، ليُكتبَ أحد أسوأ فصول التردي الإنساني والأخلاقي منذ قيام الثورة، شارحاً بالصوت والصورة كيف هانت علينا مساجدٌ نتعبد فيها إلى الله تعالى.

كنتُ أعلم أن السياسة ستلطِّخنا جميعاً بالعار الذي لن يسقط من ذاكرة التاريخ، بعدما أمسك بها مراهقون، فأحالوها إلى سكين يمزقون به مصريتنا ووحدتنا من خلال عمليات استقطاب قميئة تدور رحاها في سائر بقاع الوطن حتى وصلت إلى منابر الكلمة والموعظة والإرشاد، فتحولت منابر نشر النور والتسامح والتآخي والرحمة، إلى منصات لنشر الفرقة والشرذمة، والحضِّ على الانتماء للتيار وللفريق.. ذلك وقع من كافة التيارات الفكرية وليس من قبل تيار واحد فقط.

إن السياسة قد مزَّقتنا، في البيت وفي الشارع وفي العمل وفي الإعلام، وكان المسجد هو الذي يعيد إلينا اللُّحمة ويوقظ في القلوب المحبة، ويحيي في النفوس الرحمة.. فكنت أهرول ومن هم على شاكلتي إليه لنستريح من هذا التجاذب الدميم، لنشحن الضمائر بشيء من اليقظة والتجرد والموضوعية.. أما وأن المساجد قد وصلتها يد العبث، فإلى أين نذهب يا رب؟!.

ما حدث في الإسكندرية هو نتيجة طبيعية لزحف السياسة إلى منابر المساجد دون فهم حقيقي وواضح لها، ومن ثم عُبِّرَ عنها بطريقة فيها نوع من الإملاء أو شيء من الإقصاء، فأوغرت الصدور، ونبشت في المقبور من الأحقاد والتشاحن، فتجرأ البعض على هيبة الخطيب، ومن ثم على هيبة المسجد، فكان ما كان.

إن المساجد هي أماكن لجمع وتوحيد المسلمين أيها السادة، وهذا هو هدفها الأسمى، فإذا كانت السياسة ستفرق شمل المسلمين في بيوت الله، فلا داعي مطلقاً للخوض فيها، كي لا تفقد أطهر الأماكن مهمتها ورسالتها، وتنكسر هيبتها أمام موتورين أعمت بصيرتهم وساوس الشياطين من إنس وجن.

أعلم أن كثيراً سيقولون: قبل ألف وأربع مائة عام استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي لمناقشة شئون الدولة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأن الإسلام نظام شامل لكل مظاهر الحياة.. الخ، وشخصي المتواضع لا ينكر هذا بل يؤمن به إيماناً راسخاً كرسوخ الجبال، ولكن أضع بين يدي القارئ هذه النقاط البسيطة:-

(1) هل التزم خطباء اليوم بالخط الفكري الذي رسمه النبي محمد «صلى الله عليه وسلم» في خطابه إلى الناس عامة وإلى المسلمين خاصة؟!.

(2) هناك جانب في الفقه الإسلامي يسمى فقه الضرورات والموازنات، وفيه أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

(3) في الإدارة السياسية لشئون الدولة من قبل الرسول الأعظم ما يبهر العقل، وما صلح الحديبية إلا نموذجاً واحداً يبرز العقلية العبقرية التي كانت تدير الأمور السياسية، وهو ما امتعض منه الصحابة بداية ولكن أثبتت الأيام أنه كان صلحاً عبقرياً.

(4) المنابر ليست أماكن لطرح وجهة نظر تيار دون آخر، ولكنها أماكن لطرح وجهة نظر الإسلام حيال كل القضايا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي