لجنة عليا لمكافحة الاقتصاد الخفي
في إحدى حلقات برنامج ''الثامنة'' مع داود الشريان، كان المشاركون يناقشون مشكلة ''التستر التجاري''، فانبرى أحد الضيوف - مسؤول سابق في وزارة التجارة والصناعة - مفتخرا بالأنظمة واللوائح التي نملكها، لكنه اعترف مع احتدام النقاش بضعف مستوى المتابعة والرقابة الحكومية.
هذا هو الواقع الأليم، مع الأسف، أنظمة ولوائح لم تغادر الحبر الذي كتبت به، ولم تدخل فعليا حيز التنفيذ والمتابعة، والدليل تنامي ظاهرة التستر التجاري بشكل مخيف، وخاصة في الأعوام العشرة الماضية، فقد نشرت ''الاقتصادية'' تقريرا صحفيا مطولا في شهر مايو من هذا العام، بعنوان ''التستر التجاري أهم أسباب نمو الأنشطة الخفية''، حيث رصد التقرير أبرز ملامح التستر التجاري في السعودية، ومنها:
- تزايد تحويلات العمالة الأجنبية إلى الخارج بمبالغ كبيرة تفوق رواتبها ومستحقاتها المالية السنوية.
- تزايد المؤسسات الوهمية السعودية (نحو 80 في المائة من العمالة السائبة في الشوارع تحت كفالة مؤسسات وهمية).
- تزايد أعداد العمالة المتخلفة والمخالفة لنظام العمل، التي وجدت في تلك الأنشطة مجالاً لمزاولة أعمالها.
- تكاثر المحال الصغيرة في الشارع الواحد بشكل لا يتسق مع آلية الأرباح الاقتصادية.
- تكاثر من يطلق عليهم تجار الشنطة، الذين عادة ما يكونون على شكل موزعين في قطاع الذهب والمجوهرات والعطور.
- دخول بعض الشركات الكبرى تحت اسم التمثيل التجاري.
- وجود شركات أجنبية بأسماء سعودية، وقد جمعت هذه الشركات بين التهرب الضريبي والتستر التجاري.
وقد أضحى التستر التجاري في السعودية عمادا للاقتصاد الخفي، الذي ينهش في اقتصادنا الوطني (الرسمي)، وبات يهدده إذا لم يحارب بكل ضراوة وحزم، حيث تقدر بعض المصادر أن حجم الاقتصاد الخفي في السعودية يبلغ نحو 17 في المائة من حجم الناتج المحلي الذي تجاوز تريليوني ريال سعودي عام 2011.
ويقسم الاقتصاد الخفي أو اقتصاد الظل كما يسمى أحيانا (underground economy) إلى نوعين: الاقتصاد غير الرسمي (informal economy) ، والاقتصاد الأسود (black economy)، فالاقتصاد غير الرسمي يتم فيه تداول سلع ممنوعة من التعامل ومسموحة بالاستخدام (ويندرج تحته التستر التجاري، وتجارة الشنطة، والسوق السوداء لبعض السلع، وإنتاج سلع في معامل غير نظامية، والمحال غير المسجلة، وأعمال الأجرة، وعقود الباطن غير النظامية)، أما الاقتصاد الأسود (اقتصاد الجريمة) فيتم مع سلع ممنوعة من التعامل والاستخدام (كالمتاجرة بالأسلحة أو المخدرات أو الآثار المسروقة أو البشر أو مزاولة الإرهاب أو التزوير أو الرذيلة).
وتصعب السيطرة على مدخلات ومخرجات الاقتصاد الخفي، وذلك لانتهاج المشتغلين فيه أسلوب التخفي والسرية، وعدم احتفاظهم بدفاتر محاسبية نظامية، وهذا ما يسهل غسل الأموال، ويصعب فرض الزكاة والضرائب على تلك الأنشطة، ما أدى بعمالة الاقتصاد الخفي أن تثري ثراء فاحشا، مستغلة الثغرات القانونية والتنفيذية، ومنها سوء التنسيق بين الجهات المعنية بمكافحة الاقتصاد الخفي وتداخل الاختصاصات فيما بينها، مما أعطى هذه العمالة شعورا بأن هذه الجهات مجرد ''نمور من ورق'' لا تزأر ولا تتحرك.
بل لقد بلغ استفحال الاقتصاد الخفي في بلدنا مبلغا أن أنشطة هذه الاقتصاد صارت حكرا على جنسيات أجنبية معينة، فهناك جنسيات تسيطر على تجارة التجزئة، وأخرى تسيطر على التوريد وتجارة الجملة، وغيرها يسيطر على الزراعة والتصنيع والورش والخردوات، وآخرون يهيمنون على البناء والمقاولات، والمواطن السعودي – تاجرا كان أو موظفا – يحاول أن يجد لنفسه موقعا صغيرا وسط هذا الازدحام غير النظامي في ظل البطالة التي تشهدها شريحة كبرى من أبناء وبنات الوطن.
وعلاوة على المخاطر الاقتصادية، فإن هذا الاقتصاد الفاسد يهددنا بمخاطر أمنية واجتماعية، خاصة إذا علمنا أن من يقود هذا الاقتصاد هم عمالة غير نظامية إما سائبة أو مهربة (أكثر من مليون عامل أجنبي مخالف من أصل سبعة ملايين عامل أجنبي)، لا يردعها دين ولا أخلاق ولا قانون، همها الأول تحقيق أكبر قدر من الأموال بأية وسيلة كانت قبل أن تغادر ''الفردوس السعودي'' أو ترحل منه قسرا.
إن منظومتنا الحكومية تعاني خللا، وإلا فكيف يسمح لعامل راتبه في حدود 1000 ريال في الشهر أن يحول مبلغا قد يصل إلى 50 ألف ريال في الشهر؟ وإذا رفض البنك تحويل هذا المبلغ، تحايل العامل على ذلك بتحويل أجزاء من المبلغ خلال فترات متفاوتة، فما هذه ''الثغرات الغبية''؟
إننا نحتاج إلى ''منظومة حكومية متكاملة'' تحاصر الاقتصاد الخفي منذ صدور التأشيرات إلى صدور الإقامات وتجديدها، إلى مزاولة الأعمال، وإيداع الأموال وتحويلها أو محاولة تهريبها للخارج، ومرورا بكافة الخدمات الأخرى، كخدمات الاتصالات وتقنية المعلومات (ألا يلجأ أصحاب الاقتصاد الخفي إلى الشرائح مسبقة الدفع مجهولة الهوية لتسهيل تعاملاتهم التجارية).
علما أن وزارة العمل كانت قد كشفت عن ''مبادرة'' بالتعاون مع مؤسسة النقد العربي السعودي ''ساما'' والبنوك السعودية تتمثل في نظام لمراقبة وحماية الأجور للعمالة الوطنية والوافدة، بحيث تنزل جميع رواتب العمالة في حسابات بنكية معروفة تطلع عليها وزارة العمل، ولا يستطيع العامل تحويل أي مبالغ مالية للخارج أكثر من الراتب الذي يتقاضاه في حسابه البنكي، لكن لا أدري أي مدى بلغته الوزارة والمؤسسة في تحقيق ذلك.
ولأن وزارتي العمل والتجارة مثقلتين بعشرات الملفات، فليس من العدل أن نطلب منهما مقاومة الاقتصاد الخفي وحدهما، إذ نحتاج إلى تضافر كل الجهات الحكومية فتحاصر كل واحدة منها الاقتصاد الخفي إلى أن يتم تضييق الخناق عليه. لذا،أقترح أن نبني ''منظومة حكومية رادعة'' تتمثل في تشكيل ''لجنة عليا لمكافحة الاقتصاد الخفي'' يترأسه رئيس الوزراء، ويتألف من الجهات التالية : (وزارة الداخلية، وزارة المالية، وزارة الاقتصاد والتخطيط، وزارة العمل، وزارة التجارة والصناعة، وزارة البلديات والشؤون القروية، الهيئة العامة للاستثمار، هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، ومؤسسة النقد العربي السعودي).
شخصيا، لا أحبذ إنشاء أجهزة أو كيانات حكومية جديدة، لكنني أرى أن فكرة ''لجنة عليا لمحاربة الاقتصاد الخفي'' ضرورية، ولا سيما في ظل الجهود الفردية لكل جهة حكومية، وضعف التنسيق فيما بينها، علما بأن اللجنة ستكون ''كيانا مؤقتا'' تحل بعد أن يتم تطويق الاقتصاد الخفي وعودة الأمور إلى نصابها في سوق العمل.