اللغة العربية في غرفة الإنعاش !!
لم يشاطرني بعض الأصدقاء تلك المخاوف التي أبديتها من سنوات حول تعرض لغتنا العربية لمخاطر جمَّة، متعللين بأن القرآن الكريم الذي نزل بها يكفل حفظها وحمايتها، وهذا تعليل لا بأس به في جانبه الشكلي، أما من الناحية الموضوعية فإن الأمر يحتاج إلى بعض التريث لشرح جوانب القضية بعيداً عن العاطفة المتأججة، لنعرف - بلا مجاملة ولا مواربة - موضع أقدمنا ونحن نتحدث عن مفتاح هويتنا العربية.
لا أنكر أن اللغة محفوظة بضمان حفظ الكتاب الذي نزل بها من قبل ربّ العالمين وهو القرآن الكريم، ولكني لا أقصد الحرف المنشور في الكتاب المسطور، فهو هو لن يتغير، وإنما هو الحرف الجاري والمتداول على ألسنة العرب في منتدياتهم وحواراتهم ومناظراتهم، والمخطوط والمنقوش في كتاباتهم ومناقشاتهم ومدوناتهم، إذ يعاني الأخير تراجعاً وركاكة على مستوى النطق والكتابة، ناهيك عما يعتريه من أخطاء في الصياغة و الإملاء، فإذا كان ذلك يقع من مثقفين وكتاب ومفكرين فإن الطامة تكون أعظم وأخطر.
كشفت الفضائيات المتناثرة على الأقمار الصناعية، والمنتديات الاجتماعية مثل فيسبوك وتوتير وبعض المواقع الالكترونية التي تنشر مشاركات دون مراجعة لغوية على شبكة المعلومات الدولية «انترنت» عن تراجع هائل في مستوى اللغة العربية لدى كثير من النخب وأهل الرأي والفكر والكلمة أو هكذا يقولون، إذ تبين بالصوت والصورة أن لغتنا الجميلة تعاني من شلل رباعي على أطراف ألسنة وأسنة أقلام هؤلاء، حتى بدت اللغة ذات الثراء اللفظي في رحابهم عاجزة عن التعبير عن شموخها وعظمتها وخلودها، وهنا يكمن خطر نشر هذا المستوى الهزيل من التعاطي مع مفردات اللغة العربية على جيل جديد يشاهد ويقرأ ويقتدي.
في مصرنا كمثال، أطلَّت علينا من النوافذ الإعلامية والمواقع الالكترونية - عقب ثورة 25 يناير تحديداً- ألسنة لا تعرف كيف تنطق الكلمة العربية، وأقلاماً لا تعرف كيف تصوغها أو تكتبها، فتجلت مهازل في وحدات بناء الوعي والانتماء للهوية واللغة، دون أن نسمع صوتاً يشق هذا الغثاء المطبق ليدافع عما تبقى من ملامح لغتنا من قبل أن ترحل عن وعي الناس ومن وجدانهم لتحل محلها لغة ابتدعها بعض «الأراجوزات» في وسائل الإعلام إما عن جهل وإما عن عمد، لتكون النتيجة واحدة وهي أن شيئاً يُحاك ليُضرب رباط اللغة كذلك في مقتل.
كذلك فإنّ شيئاً مماثلاً يُفعل.. ومؤسسات التعليم تتعامل مع اللغة العربية على أنها مادة كالرياضيات، فتسجنها في معاني المفردات والكنايات وأعرب ما تحته خط، لتبقى اللغة داخل قوالب نمطية صماء فلا تنتج خيالاً لغوياً ولا ثراء فكرياً ولا فصاحة في النطق، بل إن المتخرجين من الكليات المتخصصة في اللغة العربية لا يجيد سوى القليل منهم تلك المهارات، لا من خلال تعليم وتدريب ولكن من خلال موهبة ومقدرة خاصة.
أرى في النهاية كعربي مسلم أن اللغة العربية يمكن أن تنهض من وهدتها بأن نعود إلى القرآن الكريم الذي حمل حرفها في بيان مانع وماتع، لنستعمل الكنز بدلاً من أن نحفظه في الأدراج وفوق الرفوف، ولتكن قراءة القرآن على نحو صحيح مسوغاً رئيساً للنجاح في اللغة العربية في المدارس، ومسوغاً رئيساً كذلك للقبول في كليات اللغة العربية، ولا أعتقد أن ذلك يتطلب خطة «خمسية» ولا غيرها من خطط تميت الأفكار قبل أن تولد.