مزيد من الأوجاع الاقتصادية

العام الرابع بعد انطلاق الأزمة المالية العالمية في عام 2008 مضى ولم يحدث تغير كبير أو تحول في التعافي الاقتصادي العالمي. العالم الأول لا يزال يتعامل مع هذه الأزمة كأنها أزمة عادية، ويستخدم أسلوب الترميم والتجميل والتأجيل، على أمل شراء الوقت للمرحلة التالية. أصبحت الأزمة جزءاً من الاقتصاد وأصبح الاقتصاد العالمي جزءاً منها، وبات على الجميع التعامل الآني مع هذه الأزمة. السنوات الأربع الأخيرة تعلمنا خلالها عدداً من الدروس، أهمها أن التعامل مع الأزمات يختلف باختلاف حدوثها، فالأزمة التي تحدث في الدول المتقدمة يتم التعاطي معها بشكل مختلف مع الأزمة التي تحدث في الدول النامية وفي دول الاقتصادات الصاعدة.

العودة بالتاريخ إلى الوراء قليلاً ومقارنة الطريقة التي تعاملت بها الدول المتقدمة مع الأزمة المالية التي حدثت في آسيا بالطريقة التي يتم التعامل بها مع الأزمة في منطقة اليورو، تعطي دلالات كبيرة على خلل كبير في نظم وأساليب الحوكمة للاقتصاد العالمي. ويبدو أن الآسيويين هم أكثر من تعلم من هذا الدرس، ولذلك فهم عملوا خلال السنوات الأخيرة التي تلت أزمتهم التي حدثت في عام 1997 على إجراء إصلاحات هيكلية كبيرة لاقتصاداتهم، لزيادة متانتها ومقاومتها للأزمات المالية. في المقابل، فإن الدول المتقدمة التي نعتت آسيا خلال أزمتها بتبني المحسوبية الرأسمالية Crony Capitalism، لم تكن بعيدة كل البعد عن هذا الوصف عندما ضربتها الأزمة المالية في عام 2008 أي بعد أكثر من عشر سنوات من تلقينها هذا الدرس لآسيا.
المشكلات العميقة في التشريعات المالية في الدول المتقدمة أبرزت ضعفاً هيكلياً عميقاً نتج بشكل كبير عن التأثير الكبير لمؤسسات القطاع المالي الكبيرة في تغيير هذه التشريعات لتصب في مصلحة الرؤساء التنفيذيين الكبار لهذه المؤسسات. وزاد الطين بلة الطريقة التي تعاملت بها الدول عندما ووجهت بأزمة كبيرة تضرب العمود الفقري للنظم المالية فيها، حيث حملت دافعي الضرائب تكلفة انتشال هذه المؤسسات. الضغوط التي واجهتها هذه الدول من ناخبيها هي التي أجبرتها على الدخول في مفاوضات لإصلاح الأنظمة التشريعية المالية فيها، ما نتج عنه الاتفاق على الالتزام التدريجي بتشريعات بازل 3، لكن الضغوط التي تواجهها حكومات الدول المتقدمة بالتحديد من المؤسسات المالية الكبرى، تثير التساؤلات حول إمكانية الالتزام بهذه التشريعات في الوقت المحدد.
في عام 2012 بدأ برنامج إقراضي جديد للاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي مع اليونان، وكانت هناك تساؤلات كثيرة حول إمكانية الالتزام بهذا البرنامج في البداية في ظل التجاذبات السياسية التي شهدتها اليونان في بداية العام، وبروز تيار يميني يدعو إلى عدم الالتزام بذلك ورمي الكرة في مرمى الدول الأوروبية. وبالفعل تأخرت اليونان كثيراً في تحقيق الالتزام بشروط البرنامج، ما زاد من تكاليف التصحيح، التي انتهت أخيراً بحزمة من الإصلاحات كان من ضمنها عملية شراء اليونان ديونها لإعادة الدين العام إلى وضع مستقر بنهاية عام 2020 في أوروبا الآن هناك أكثر من عشر دول لديها برامج إقراض وتصحيح اقتصادي مع صندوق النقد الدولي يتجاوز مجموعة قيمتها 186 مليار دولار. هذا يعني أن اليونان ومنطقة اليورو وأوروبا بشكل عام، ستظل لفترة طويلة نسبياً مركزاً للمخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي. أو بمعنى آخر، فإن النمو الاقتصادي العالمي سيظل أسيراً لمسيرة الإصلاح والتعافي الاقتصادي في أوروبا.

الولايات المتحدة هي الأخرى ليست بعيدة عن المشهد الأوروبي فيما يتعلق بتأثيرها السلبي في النمو الاقتصادي العالمي، خصوصاً بالنظر إلى وضع الدين العام وعجز الموازنة الأمريكية. النقاش السياسي داخل الولايات المتحدة وأوروبا، والانتخابات التي تحصل في كل دولة من هذه الدول، أصبحت مصدراً للقلق والتأخر في عملية الإصلاح بدلاً من أن تكون حافزاً لعملية الإصلاح والتعافي الاقتصادي العالمي. فما إن انتهى العالم من متابعة ما أسفرت عنه انتخابات اليونان في بداية العام، والتي مرت بمرحلتين صعبتين للغاية، حتى بدأت انتخابات الرئاسة الفرنسية ثم انتخابات الرئاسة الأمريكية، وعلى العالم أن ينتظر الآن ما ستسفر عنه انتخابات الرئاسة الألمانية.
النتيجة لكل ذلك، مزيد من التراجع في النمو الاقتصادي العالمي، في وقت يحتاج فيه العالم إلى هذا النمو أكثر من أي وقت مضى لخلق المزيد من الوظائف وتوفير فرص العيش الكريم. صندوق النقد الدولي يتوقع أن يتراجع النمو الاقتصادي لهذا العام 2012 إلى 3.3 في المائة، ويرتفع إلى 6.3 في عام 2013 هذه التوقعات بالطبع مشروطة بقيام الاتحاد الأوروبي بما يلزم لتصحيح الوضع في منطقة اليورو وفي اليونان بالتحديد، والتوصل في الولايات المتحدة إلى اتفاق لتجنب الوقوع في الهاوية المالية. وفي حين اتخذ الأوروبيون أخيرا بعض الإجراءات للحد من المخاطر التي تهدد بخروج اليونان من منطقة اليورو، فإن السياسيين في الولايات المتحدة ما زالوا يراوحون مكانهم في سبيل التوصل إلى اتفاق بشأن سقف الدين والزيادات الضريبية والحد من عجز الموازنة. هذا الأمر يلقي بظلاله بالطبع على النشاط الاقتصادي في الدول النامية التي لن تكون بمعزل عن هذا التراجع في حال حدوثه، ويستوجب اتخاذ المزيد من التدابير التي تضمن متانة اقتصاداتها في حال حدوث أي ركود اقتصادي محتمل.

* كاتب سعودي مقيم في واشنطن

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي