بريق الاستثمار العربي - العربي ومظلوميته
الاستثمار مفردة ذات بريق كبير وصدى واسع في عالمنا المعاصر، تنبه لها بشكل كبير منذ عقود من الزمان، فأسهمت في انطلاقه نحو التطور والحضارة والمدنية بسرعة البرق – إن صح التعبير - فبعضه بعد أن كان مجرد أراض تشكو الإهمال، أصبح سياحيًا، وبعضه شغل طاقاته المعطلة فأصبح صناعيًا، وبعضه استخرج ثرواته واستثمرها لبناء منظومات اقتصادية مختلفة فدرّت عليه ثروات مضاعفة، وآخر طور أنظمته التعليمية، وغيره طور بناه التحتية... إلخ، لتصب كلها في تعزيز السمعة وتوقير المكانة، وتؤشر إلى أهمية الاستثمار في الإنسان للوصول إلى كل هذه المنجزات والمكاسب.
ومع شهرة مفردة الاستثمار، إلا أنها مظلومة جدًا في عالمنا العربي الزاخر بالفرص والموارد والإمكانات المتاحة التي يتعذر وجودها فيمن سبقه من عالم اليوم بالعلم والحضارة، وزاد من المعوقات أن هذه الموارد بدلاً من أن تكون عونًا له لتحقيق ما يريد، صارت عبئًا عليه، فأصبحت هدفًا لكل طامع، ولعبة لكل جشع، إلا من عرف قدره، وانطلق يسابق الزمان لنيل مكانته المستحقة، وهم قليل.
ومن الهموم إلى الآمال، حيث انطلقت الإثنين الماضي قمة الرياض الاقتصادية وهي تحمل أمل الشعوب العربية في أن تخرج بنتائج تحقق طموح الإنسان العربي وهو يمر بما يسمى "الربيع العربي" منذ سنتين تقريبًا من دون وجهة محددة يتوقف عندها، ويبحث في كل ذلك عن فسحة أمل تعيد الاستقرار للأوضاع السياسية والاقتصادية؛ إذ إن الاقتصاد والسياسة قدمان في جسد واحد، ويجب أن تتحرك هاتان القدمان بالسرعة نفسها لتحقيق المقصد وبلوغ الهدف، فلو حدث تشوه في هذا الحراك لأدى إلى ضعف في التنمية التي يطمح لها الجميع، وهل تنفع الرِّجل السليمة في محو صفة الأعرج لمن كانت رجله الأخرى عليلة؟
توجد في إطار المنطقة العربية دول غنية وأخرى فقيرة، وهناك دول فيها ثروات طبيعية، وأخرى تملك طاقات بشرية، وكل دولة من الدول العربية فيها ميزة تنافسية معينة يجب استغلالها، ونبدأ أولاً بدول الخليج العربي. فبصورة عامة، أنعم الله عليها بثروات طبيعية – النفط – ما أدى إلى تحقيق عوائد عملاقة في ميزانيات هذه الدول، بل فائض أيضًا، لكنها اعتادت أن تستثمر هذه الأموال في الدول الأجنبية في صورة ودائع أو نقد، متجنبة بذلك ما تعتقد أنه خطر في المنطقة العربية يهدد أموالها، لكنها اصطدمت هناك بعراقيل أخرى مثل تقلبات أسعار العملة، وتقلبات الدورات الاقتصادية، ثم جاء الزلزال الاقتصادي الكبير في الأزمة الاقتصادية العالمية ليهلك تلك الأموال، ويتركها أثرًا بعد عين.
لكن هل تكفي هذه التقلبات لنقل الأموال إلى المنطقة العربية للخلاص من المشكلات المذكورة؟ هذا السؤال يقودنا إلى أن الدول العربية تحتاج إلى تكامل اقتصادي من جهة، وأن تعمل على سنِّ تشريعات مشجعة للاستثمار، وما طلبه خادم الحرمين الشريفين في القمة من رفع رأسمال الشركات المشتركة بين الدول العربية بمقدار 50 في المائة من رأس المال أعلن انطلاقة استثمار حقيقي يجب أن تسعى له جميع الدول العربية التي تحقق فوائض مالية، في المقابل يجب أن تلعب الجامعة العربية دورًا في الموضوع بأن تكون الضامن للاستثمارات العربية - العربية من أي تغييرات محتملة يمكن أن تقود العملية الاستثمارية نحو الهلاك.
إن من أمثلة التكامل الاقتصادي الذي أشرنا إليه في العالم العربي، على سبيل المثال لا الحصر، يتمثل في الاستغلال الأمثل للطاقات والموارد، فالسودان تعد سلة الغذاء العربي، فلماذا لا نرى استثمارًا عربيًا بإنشاء شركة للغذاء العربي برأسمال عربي وأيدٍ عاملة عربية ليتم استغلال تلك الأرض الزراعية الوفيرة الخصوبة والمياه؟ وما أجمل أن تكون الشركات المشاركة مدرجة في سوق الأوراق المالية ليستطيع الإنسان العربي أن يشارك هو أيضًا في التنمية فيفيد ويستفيد؟ مع أن هذا الهدف – الزراعة - إن كان مجرد حبر على ورق في الماضي، فسيفرض نفسه مستقبلاً؛ لأننا مقبلون على أزمة غذاء كبرى ذات بُعد عالمي أشارت إليه الدلائل والإحصاءات المختلفة لمنظمات الأغذية العالمية.
ولأن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، كما يقال، فإن الخطوة الأولى للتكامل الاقتصادي في الدول العربية تتمثل في توحيد القوانين وتذليل الصعاب، وتكون البداية من الاتحاد الجمركي العربي الموحد بحيث لا تكون هناك ضريبة للتبادل التجاري العربي – العربي، وتكون التعرفة الجمركية للبضائع القادمة من خارج المنطقة العربية موحدة أيضًا، ويطمح الإنسان العربي لتسريع ذلك أن يكون هناك قرار حاسم في الموضوع ينص على أنه خلال سنة على الأكثر ستلغى التعرفة الجمركية بين الدول العربية، وليس شرطًا أن تدخل جميع الدول العربية من أول يوم في هذا الاتحاد، لكن أول الغيث قطرة، ثم يتتابع الخير.
ثم نأتي إلى الاستثمار في البنية التحتية، وأخص بالذكر القطارات؛ لأنها ستخفض كثيرًا من تكلفة النقل بين الدول العربية، ويتعين أن يكون هذا الأمر سريعًا، حيث سمعنا قبل فترة ليست بالبعيدة عن القطار الخليجي الذي يمر بجميع دول الخليج انطلاقًا من الكويت شمالاً والانتهاء بعمان جنوبًا على أن تقوم كل دولة بعمل البنية التحتية الخاصة به، وما زلنا في انتظار ظهور النور أمام هذا المشروع ليكون بادرة خير لافتتاح مشاريع أخرى.
إن أفضل استثمار في زمان الأزمات - وما أكثرها في عالم اليوم - هو الاستثمار في البنية التحتية؛ لأننا سنحصل على أفضل الأسعار، ونعزز اقتصاد البلد بضخ أموال فيه، فنرفع مستوى دخل الفرد، ونتقدم باتجاه التكامل الاقتصادي الذي يطمح إليه جميع أفراد المجتمع العربي، سنأمل ونأمل ونبقى نأمل أن نرى مشاريع عربية مشتركة، بمعنى شركات عربية تعمل في مجال التنمية، ليتحقق لنا الاستقرار والقوة في الفترة المقبلة - إن شاء الله.
وختامًا، فإن ما قلته ما هو إلا جزء من نظرة الملك عبد الله بن عبد العزيز، البعيدة للمستقبل العربي، تلك التي نتشرف أن نعمل معًا لتحقيقها من أجل الرفاه والازدهار.