إصلاح القطاع المصرفي في المملكة

تلعب المصارف دورًا مهمًا في الاقتصاد السعودي، ولم يعد دورها يقتصر على القيام بتلقي الودائع من الجمهور لتعيد إقراضها إلى الغير نظير مقابل مالي أعلى؛ ما تعطيه للمودع، إنما امتد نشاطها إلى نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية كافة، وأصبح لها دور مهم في دفع عجلة التقدم الاقتصادي بطريقة غير مباشرة عن طريق مساعدة التجار والصناعيين على القيام بأعمالهم، سواء بتوفير الأموال اللازمة أو بتقديم خدمات مصرفية تساعد على تنفيذ هذه الأعمال.

ونظرًا للدور الحيوي والمهم الذي تلعبه المصارف، كان من الضروري أن تتدخل الدولة لتنظيم العمل المصرفي، فاهتمت المملكة منذ نشأتها بتنظيمه، وظهر أول تقنين تجاري لهذا القطاع في عهد المؤسس الملك عبد العزيز ـــ طيب الله ثراه ـــ عندما صدر أول نظام سعودي للنقد في عام 1346هـ تحت اسم (نظام النقد الحجازي النجدي) وسك بموجبه الريال العربي. وفي عام 1354هـ قررت الحكومة سك ريال يحمل اسم المملكة العربية السعودية، ثم أنشئت مؤسسة النقد العربي السعودي عام 1371هـ. وبعد ذلك صدر نظام النقد الثاني ونظام مراقبة النقد عام 1376هـ. وتلاه نظام النقد الثالث عام 1377هـ. وبعد ذلك بعامين صدر نظام النقد السعودي الرابع (الحالي) عام 1379هـ، ثم صدر نظام مراقبة البنوك عام 1386هـ الذي أصبحت بموجبه مؤسسة النقد مخوّلة بالترخيص بمزاولة الأعمال المصرفية والإشراف والرقابة على المصارف، وذلك للتأكد من احترامها للنظام والالتزام بالسياسة النقدية والائتمانية والمصرفية للدولة.

ثم ظهرت الحاجة إلى صدور أنظمة وقرارات تنظيمية أخرى، منها الأمر السامي الصادر عام 1407هـ القاضي بتشكيل لجنة في مؤسسة النقد من ثلاثة أشخاص من ذوي الاختصاص لدراسة القضايا بين البنوك وعملائها باسم لجنة تسوية المنازعات المصرفية، ونظام مكافحة غسل الأموال الصادر بمرسوم ملكي عام 1424هـ، ونظام المعلومات الائتمانية الصادر بمرسوم ملكي عام 1429هـ، وقواعد تطبيق أحكام نظام مراقبة البنوك الصادرة بقرار وزير المالية والاقتصاد الوطني عام 1406هـ، والقواعد المنظمة لمزاولة أعمال الصرافة الصادرة بقرار وزير المالية عام 1432هـ.

وإذا ما أجرينا اليوم نظرة سريعة لتلك الأنظمة والقواعد المنظمة للنشاط المصرفي، فإنه يمكن القول بوجود اهتمام كبير بتنظيم ممارسة الأعمال المصرفية كمهنة، أما التصرفات والأعمال القانونية التي تقوم بها المصارف لحساب عملائها مثل أعمال تسلم النقود كودائع وفتح الحسابات الجارية وفتح الاعتمادات وإصدار خطابات الضمان ودفع وتحصيل الشيكات، وخصم السندات والكمبيالات، فلم تجد الاهتمام الذي تستحقه ولا تزال معظم هذه التصرفات والعقود التي تربط المصارف بعملائها تخضع لما استقر عليه العرف والعادات التجارية والمصرفية ودون أن تصدر لها أنظمة حتى الآن.

كما يمكن القول إن تنظيم ممارسة الأعمال المصرفية كمهنة قد اعتوره بعض الممارسات التنظيمية التي لا تنسجم مع ما استقر عليه العمل التنظيمي في المملكة الذي يمكن إجماله في مجموعتين، هما: الأنظمة واللوائح، وهما المصطلحان اللذان اعتمدهما النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الشورى ونظام مجلس الوزراء في إظهار العمل التنظيمي. أما ما عداهما من تسميات ومصطلحات مثل "قواعد" التي استخدمتها مؤسسة النقد فقد تم التخلي عنها بعد صدور النظام الأساسي للحكم واتجهت الممارسة الفعلية في العمل التنظيمي إلى استخدام المصطلحات وفقًا لما ورد في الأنظمة الأساسية للدولة، خصوصًا أن النظام الأساسي للحكم قد نص على موضوعات ومسائل مهمة يتعين تنظيمها في هيئة أنظمة؛ ما يتعين معه الإبقاء على مفهوم محدد للنظام مستقى من النظام الأساسي ذاته، وكذلك الأمر بالنسبة للائحة، كما ذكر بحق أستاذنا الدكتور محمد بن عبد الله المرزوقي في مؤلفه المتميز عن السلطة التنظيمية في المملكة.

وهذا الفراغ في البنية النظامية المصرفية، وإن كان لا يشكل ضررًا كبيرًا على المصارف باعتبارها الطرف الأقوى الذي يعرف الأعراف والعادات المصرفية ويتولى مهمة صياغة وإعداد العقود بما يحقق مصالحه، إلا أن عملاء المصارف، ومعظمهم من المواطنين البسطاء، أكثر من يعاني هذا الفراغ النظامي وما تولد عنه من عقود الإذعان التي تضعها المصارف حسب هواها ودون نظام يرشدها ويضبطها، خصوصًا في ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني التي تضم المستفيدين من المصارف وتهتم بمصالحهم. ولعل السلطة التنظيمية في المملكة تبادر إلى سد هذا الفراغ من خلال إصدار الأنظمة الخاصة بعمليات البنوك؛ كي يكون العملاء على علم بالقواعد التي تنطبق على علاقاتهم مع المصارف، وتحقيقًا لحماية الطرفين وتقليل المنازعات بينهما ومنعا لاستغلال أحدهما، خصوصًا المصارف باعتبارها الطرف الأقوى. ولعل مؤسسة النقد أثناء قيامها بمراجعة الأنظمة والقواعد القائمة وتطويرها بغرض سد النقص الذي سبق الإشارة إليه أن تقوم كذلك بتطوير القواعد سالفة الذكر التي أصدرها وزير المالية وتعيد صياغتها في أنظمة أو لوائح حسبما يقتضي الحال وفقًا للقواعد التي استقر عليها العمل التنظيمي في المملكة ومن ثم إصدارها وفقًا للإجراءات النظامية اللازمة.

ويدخل ضمن المنظومة النظامية التي تحتاج إلى التطوير في القطاع المصرفي نظام مراقبة البنوك الذي صدر قبل نحو 50 عامًا، خصوصًا قسم العقوبات منه، وكذلك صدور نظام جديد يتضمن هيكلة جذرية للجنة تسوية المنازعات المصرفية، ويحقق ما تحتاج إليه من استقلال، بما في ذلك تعديل الاسم وتوفير الكوادر القضائية المتخصصة، ويتضمن تطبيقًا لمبادئ المرافعات وقواعدها وإصدار الأحكام والاعتراض عليها المعروفة قضائيًا؛ كي نصل إلى المرحلة التي يمكن القول معها إنه أصبح لدينا نظام يشتمل على القواعد المنظمة للعلاقات بين المصارف والعملاء وقضاء مصرفي بالمفهوم الحقيقي للقضاء، وذلك على غرار ما هو مطبق في الدول المجاورة والعديد من دول العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي