الاقتصادُ في الكلمة !!

أبدأ بسؤال لقدح أوتار العقول.. لماذا خلقَ الله للإنسان لساناً واحداً وخلق له أذنين؟! ولماذا وضع - سبحانه - على اللسان غطاءين.. أسناناً وشفتين، وترك الأذنين بلا غطاء؟!.

لقد علمتني الحياة درساً عظيماً.. أريدكم أن تشاطروني لذة تأمل معانيه، والفوز بأكبر قدر من مراميه.. الدرس يبدأ من الفم.. من عند اللسان!.

* قالوا: { المرءُ مختبئٌ تحت لسانه، فإذا تكلم ظهر }.. والمعني كما يتبادر إلى ذهني القاصر، أن الكلام بلا روية كشف للهوية، وإظهار للطوية، وبيان لحالة المتكلم، ومن ثم زوال غموضه وتَكَشُّف أسراره، وعليه فلا تعب ولا نصب في استبيان ما أراد أن يخفيه، وهذه أحد دروب السذاجة.. أن تكون بائعاً لا مشترياً، وأن تكون متحدثاً لا مستمعاً، فيوماً ما سوف يجف بئر الكلام، أو سوف يزهدك الغير من كثرة التكرار، والدوران في نفس المدار، وسوف يصبح الحكم عليك أمراً سهل المنال، بعدما كشفت نفسك للآخرين بلا ثمن!.

* نتيجة: إذن يجب أن نعرف متى يجب أن نتكلم؟ ومتى يجب أن نصمت؟، فليس الصياح والعويل دليل حياة ولا ثقافة ولا علم، وهنا أتذكر حكمة نطق بها لسان خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز لما سُئل: متى تحب أن تتكلم؟ قال أحب أن أتكلم حين أشتهى الصمت، قيل له: ومتى تحب أن تصمت؟ قال أحب أن أصمت حين اشتهى الكلام، والمغزى من وراء هذه الحكمة رائع للغاية، خاصة عندما يصدر من صاحب أكبر منصب بدولة الخلافة، فالكلام عند اشتهاء الصمت سوف يكون مغلفاً بالحكمة، ممزوجاً بالتأني، محاطاً بالتعقل، ومن ثم يمضى نحو أهدافه بلا إثارة، والصمت عند اشتهاء الكلام وقار وهيبة، وكبح لمفردات متأججة، ومن ثم تضييق الخناق على بواعث الشر و مكامن التناحر، وعليه فالصمت على طول الخط سلبية مخيفة، والكلام على طول الخط سذاجة ومصيبة!.

* استطراد: إن الثرثرة بعثرة لما مضى في دروب النسيان أو التناسي، وطمس لما انقضى من مآثر وفضائل ولو كانت مثل الجبال، وحَجْر وحَجْب طويل الأمد على الآتي من الفعل و القول، فالإنسان يخسر خسراناً كبيراً إن سبق لسانه عقله، وإن تغلبت شهوة كلامه على فطرة صمته، بل إن المجتمع يخسر إن كَـثُر فيه الضجيج الذي تتوارى بين أنقاضه شاهقة الحق، وتضيع في متاهاته بَيـِّنَةُ الرشد، فلا يتبين الناس الطريق، ولا يهتدي الخلق إلى صواب، لأن الكل يثرثر، فلا مجال للسمع أو للتعقل.

* نموذجٌ فجٌ للثرثرة: الأخبار الكاذبة، والشائعات المغرضة، والفتاوى المنحرفة، والشعارات البراقة، والنميمة، والغيبة.. أمراض خطيرة تنشرها كلمات رنانة في محيط المجتمع، فتزلزل استقراره وتهدد أمنه.. نعم، إن اختلاف الرأي وتباين الرؤى أمر طبيعي بين البشر لأنهم هكذا خُلقوا، لكن يجب أن نواجه أنفسنا بعدة أسئلة قبل أن نتحدث عن حق الاختلاف، يجب أن نعلم أولاً لماذا نختلف؟، وكيف نختلف؟، وما هي مبررات الاختلاف؟، وما هي أهداف الاختلاف؟، حتى لا يكون الاختلاف مجرد معارك كلامية جدلية لا تسمن ولا تُغنى من جوع، ولا أحسب أن عاقلاً يؤيد حلقات العراك والصياح والجدال العقيم التي تعقدها بعض الفضائيات، تحت مبررات البحث عن الحقيقة، فالحقيقة تتوه في غابة الجدل، والمحصلة الحقيقية هي دفع الناس بلا روية إلى دائرة فقدان شهية الصمت، وإلى بلوغ الذروة في شهوة الكلام.

* خلاصة الكلام: لما ذهب نبي الله موسى عليه السلام لمناجاة ربه ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر، وترك في قومه هارون أخاه وشريكه في الرسالة، ماذا حدث؟، عَبَدَ القوم في غيبة موسى عجلاً صنعه السامرى من حُلى القوم، فلما رجع موسى عليه السلام، وجد هذا الانحراف، فغضب، وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه ولحيته يجره إليه غيظاً وحنقاً، وقال كما حكي القرآن { قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. ألا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}، وهنا بيت القصيد: أجاب هارون على كما حكي القرآن { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }.. ودلالات ردُّ هارون على موسى عليهما السلام اتركها لأهلها، ولكن أطرحُ أسئلة أربع، على قدر فهمي المتواضع:

(1) أليست وحدة المجتمع وتماسكه فريضة؟!.

(2) هل يعني الصمت الحكيم الرضا عن الأزمات، أم معناه التفكر من أجل اختيار أفضل الطرق لعلاجها؟!.

(3) هل من المقبول أن يتحدث كل من ملك صوتاً في شئون العامة، ناهيك عن الصياح والعويل غير المبرر، أم يجب أن يترك المجال لأولى الأمر؟!

(4) أليس من الأفضل أن نعمل سوياً في صمت، بدلاً من أن نملأ الأرض ضجيجاً بلا عمل، أو أن يقدح بعضنا بعضاً، بحثاً عن مجد شخصي، لا يتحقق إلا من فوق جماجم الآخرين؟!.

وبعد، أرجو أن تكون الإجابة المطلوبة عن السؤال الذي صدرت به المقال قد اتضحت!!.

* سبق نشر المقال بالاقتصادية بتاريخ 24/4/2010 ولكن لم يضم إلى أرشيف المقالات نظراً لأن اسمي قد كتب هكذا (عبدالقادر مصطفى عبد القادر) دون ترك مسافة بين الدال والألف في الاسم الأول والأخير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي