ارتباط التأهيل بتقديم خدمة أفضل للعميل (2)

منذ قرابة الأعوام الستة كنت قد طرحت موضوع تأجيل تنفيذ برنامج التجسير في تخصص التمريض في هذه الجريدة، وكان فيه أن علينا الانتظار إلى أن تكتمل البنية التحتية ونصبح وظيفيا جاهزين. اليوم وقد أصبحنا في مرحلة متقدمة - ولله الحمد - لماذا لا نتبع الأسلوب ذاته لباقي التخصصات، ولكن شريطة أن تكون باقي الأجهزة في القارب نفسه تتحمل مسؤولية تسكينهم في المستويات الوظيفية المناسبة أو إيجاد مخارج لاستيعابهم بشكل سلس ونافع لكل الأطراف. السؤال السابق حول وضع السوق والتعليم وإدارة أحدهما للآخر أصبح غير وارد في المناقشات الجدية، لأن الهدف لم يعد ما أريد أن أثبته بل ما أريد أن أجنيه في استثمار شبابنا وشاباتنا في مسيرة التنمية. ما الذي سيتغير لو حركت السوق التعليم أو حرك التعليم السوق؟ هي فلسفة نحتاج إلى الخروج منها ولكن بحذر. فقبل كل شيء لا نريد الانجراف كليّاً وراء ''مواكبة الشباب لمتطلبات سوق العمل''. كما علينا فرض التوازن بين التعليم الأكاديمي والمهني لئلا يترفع الفرد في مجتمعنا عن أن يكون مهنيا ويبحث عن المكتب لأنه بالفطرة ''مدير''!
على صعيد التعليم الجامعي المتميز فربابنته إذا لم يختلطوا مع العاملين ويتعرفوا من قرب على ماهية مهام أعمالهم فستكون المخرجات خارج نطاق الخدمة، وهذا فصل وعزل يحتاج إلى ردم، لأنهم سيخرّجون مكررا غير مرغوب فيه، ونستمر في الدوران كما تدور الرحى. من ناحية سوق العمل اليوم، فالبحث فيها جارٍ عن القادر على التأقلم مع ساعات الدوام الطويلة، والعمل في عدة مواقع، والقيام بقائمة طويلة من المهام متعددة التخصصات ومختلفة المستويات، والقبول برواتب متدنية، إضافة إلى خواص أخرى قد تكون أقل أهمية في الترتيب، ولكن لا يمكن إغفالها عند التخطيط والتنفيذ للإصلاح. لذلك نجد أن التخصصية هنا غائبة والدليل قيام بعض فئات من العاملين غير المتخصصين بالمهام كلها، وعلى مدى 12 ساعة أو أكثر، وبمرتبات تكاد تلامس الأرض.
إذا ما نظرنا إلى برامج التعليم العالي في قارات العالم كلها فسنجد أنها تمر بامتحان متعدد الأوجه. فإما أن تثبت قدرتها على التعامل مع المستجدات، ويعينها في ذلك القطاع الخاص. أو أن يكون عدم الرضا والقلق الدائم في المجتمع هو المحصلة التي لا يتمناها أحد، وتكون النتيجة غير محمودة. لذلك قد نجرب تكثيف اللقاءات بأبنائنا لنسمعهم ثم نتيح الفرصة لطرح نظرياتهم، وقد يمتد لإعطائهم الفرصة لقيادة بعض البرامج والمشاريع التي تخصهم فيكون لنا وجود في مستقبلهم بالرائحة العطرة والسمعة الطيبة والدعاء المقبول، بإذن الله. قد نلجأ إلى رفع معايير القبول أو وضع ضوابط واشتراطات لإكمال السير في بعض المسارات العلمية أو تنويع محتوى المقررات، وغير ذلك من إجراءات من شأنها تحسين المخرجات. ولكن محاولة إعادة التأهيل وتبني عملية التجسير لإيجاد فرص توظيف أكبر وأوسع ستكون هي الأقرب للتمكين. قد نُسرِّع أيضا في إجازة البرامج في معظم التخصصات الرئيسة والمهمة (مثل التخصصات العلمية التطبيقية، والتخصصات ذات المهارات المتحولة.. إلخ) ولكن يحتاج الراغب في ذلك إلى الاهتمام بالاعتماد والموافقة حتى تكون من مسوغات أو موجبات الترقية أو التوظيف في المجال المعتمد له هذا البرنامج.
من المتوقع الآن أن يتم تأسيس مراصد معلوماتية توفر البيانات والمعلومات الدقيقة بشكل سريع في الجهات المختلفة (في القطاعين). يتم بعد ذلك ربط هذه المراصد بين الجهات المعنية بهدف جعلها منظومة تعمل تحت مظلة مجلس يؤسس لوضع استراتيجية ''للموارد البشرية'' أو ''القوى العاملة'' وتطويرها. يمكن هنا أن تكون في إمارات المناطق فروع لهذا المجلس لضمان وضع استراتيجية كاملة لإعادة التأهيل بأسلوب منهجي يحقق أهداف التنمية الأساسية والفرعية على مستوى المملكة، ولا يترك لأي من المجالين الاجتهاد عند التنفيذ. هنا لا بد من الأخذ في الحسبان أن التخصصات التي انتقلت من الحالة الوصفية والمكتبية إلى التطبيقية الميدانية بناء على ما استجد فيها من استخدام للتقنية أو ارتباط بعلوم أخرى تطبيقية أو تطلبت تواصلا مع أفراد المجتمع في تقديم خدمة ما أو ما أشبه، ستحتاج إلى خبرات الميدانيين، إضافة إلى الأكاديميين. فالمتوقع أن يخرج المعاد تأهيلهم ليقدموا خدمات للمجتمع فيصبحوا بإجادتهم ذلك عملة يبحث عنها كل صاحب عمل ليحقق بها رغبات العملاء.
بإصدار وثيقة عمل تتضمن عدة سياسات يشترك فيها جميع أصحاب العلاقة (وليس لكل منهم سياسة) تقدم للمجلس المقترح، ستكون بداية العمل على استيعاب السعوديين بشكل أفضل. فهم إن تجمدوا وهم في العمر الإنتاجي فنحن نحكم على التنمية بالجمود من الآن. ليتنا نفكر في نقل نسبة السعودة بالنظر للشاب كمهني، إضافة إلى كونه محللا ومخططا.. إلخ. والنظر للشابة كمهنية مبدعة، إضافة إلى كونها مدرسة وطبيبة.. إلخ. إذا ما استطعنا أن نفكر في إعادة اكتشاف الشباب ليكونوا قادرين على صناعة أنفسهم وأقلمتها للصمود أمام المتغيرات السوقية، فإننا سنجعل أسواقنا أفضل بيئات عمل ناتجة عن أفضل بيئات تدريب وتعليم، وهو التكامل الذي نبحث عنه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي