التنمية وتآكل الطبقة الوسطى
مع ازدحام الأفكار والقضايا التنموية العديدة التي تهتم بالإنسان والمكان وتسعى إلى تحقيق الازدهار التنموي داخل كل دولة ويقاس من خلالها التطور الذي تعيشه الدولة هو قدرتها على زيادة أعداد أو نسبة الطبقة الوسطى الممثلة للغالبية العظمى من المواطنين والمقيمين؛ لأن هذه الطبقة ـــ كما يسميها علماء التنمية والاجتماع ـــ هي صمام الأمان التنموي والأمني لاستقرار أي دولة وضعف هذه الطبقة أو اضمحلالها مؤشر لخطورة تنموية على أساس أن ازدياد أعداد الطبقة الدنيا يقود لكثير من المشاكل الإجرامية والأمنية والصحية والاجتماعية والبيئية والسياسية؛ لأن هذه الطبقة، وفقاً للدراسات العلمية، ليس لديها ما تحرص للمحافظة عليه، أو بمعنى آخر ليس لديها ما تخسره، كما أن فرصة انتشار الجرائم والعصابات المنظمة بين أفرادها أسهل، وكذلك المخدرات وغيرها من المظاهر التي تقود إلى كثير من المشاكل، كما أنهم وقود لكل الفتن والمخالفات الأمنية والاجتماعية والدول التي هيمنت فيها الطبقة الدنيا لم تستطع الخروج من أزماتها التنموية إلا من رحم ربي.
كما أن الطبقة العليا التي في الغالب لا تمثل إلا نسبة قليلة من المجتمع فإنها في الغالب بعيدة عن المتطلبات الحقيقية للمواطن ولا تعيش ضمن مشاكله ومتطلباته واحتياجاته اليومية. وبناءً على ذلك، فإنها لا تستطيع أن تقدم الحلول التنموية المستدامة لمصلحة المجتمع وازدياد نسبتها ربما يكون سببا في ضعف القدرة على تحقيق متطلبات التنمية الحقيقية وإضعافا لنسبة الطبقة المتوسطة المدركة لمتطلبات المجتمع على أساس أنها الطبقة المعايشة لكل المستويات المجتمعية والطبقة الوسطى في المجتمع تمثل الشريحة الأكبر من المختصين في مجالات التنمية المختلفة مثل المديرين التنفيذيين والأطباء والمهندسين والإعلاميين والمحامين والعسكريين في مختلف المجالات ورجال الأعمال وأساتذة الجامعات والمعاهد من الجنسين والقائمة تطول في تصنيفهم، إلا أن ما يهمنا من هذه الطبقة وأهمية استمرارها وبقائها هو قدرتها على تحقيق السياسات الوطنية للدولة، والعمل على تحقيق الرفاهية الاجتماعية والأمنية والاقتصادية لمجتمعاتها نظراً للمسؤوليات التي تتولاها في قطاعاتها المختلفة، هذه الطبقة تمثل في الغالب النسبة الأكبر في المجتمع، حيث تفترض النظريات التنموية ومنها مثلاً ما ذكره ابن خلدون في مقدمته عن أن هذه الطبقة تمثل صمام الأمان لاستقرار الدول وازدهارها ويتأثر ذلك الاستقرار والازدهار إيجاباً أو سلباً بتأثير حجم هذه الطبقة، وتؤكد تلك الدراسات والنظريات أن المجتمع يتمثل في ثلاث طبقات أساسية، العليا والوسطى والدنيا، وهذا التصنيف وضِع له عديد من المعايير التي لا تخفى على أهل التخصص، هذا التصنيف لا يمثل تصنيفاً عنصرياً أو طبقيا، إنما يعتبر تصنيفاً مسؤولياً ومهنياً لكل مستوى في المجتمع، لهذا فإن الطبقة العليا تمثل بالقيادات السياسية والإدارية والمالية التي تتحمل مسؤولية اتخاذ القرارات وضمان تفعيلها وتعنى أيضاً بحماية حقوق الإنسان وتحقيق التوازن في ذلك بين فئات المجتمع المختلفة.
يقابلها ويعاضدها في ذلك الطبقة الوسطى التي تمثل كما أشرت الشريحة الأكبر من المجتمع ثم الطبقة الدنيا التي يدخل ضمنها أفراد المجتمع غير القادرين على تحقيق أهداف التنمية وهذه الطبقة مع الطبقة العليا يفترض فيها أن تكون نسبتها في الحدود الدنيا ضمن النسبة العامة للمجتمع؛ لأن ازدياد نسبة الطبقة الدنيا يؤدي إلى انتشار مختلف المشاكل التي سبق الإشارة إليها، وازدياد نسبة الطبقة العليا يؤدي إلى ترهلها وغيابها عن مسؤولياتها التي تؤديها في المجتمع.
إن المفكرين التنمويين وعلماء الإدارة والاقتصاد يقررون أن المجتمعات ذات الإمكانات والقدرات للنمو تتصف بوجود النسبة العظمى من السكان ضمن الطبقة الوسطى، ومن صفات هذه الفئة أنها هي المجموعة الأساسية من السكان التي تتولى إدارة التنمية الارتقاء بالخدمات والمرافق، كما أنها ذات دخول مادية جيدة ينعكس ذلك على مستوى معيشتها وتصرفاتها الحياتية من سكن وخدمات ومستويات تعليمية وصحية لأبنائها بحيث تضمن لهم التعليم المتميز والرعاية الصحية الوقائية بدلا من الصحة العلاجية اللاحقة.
بقراءة متأنية لتاريخ المملكة التنموي نجد أن الاهتمام بالتعليم والصحة كان على رأس أولويات القيادة السعودية، فأعطي التعليم ما يحتاج إليه من اهتمام ورعاية وعناية، فتم فتح المدارس في مختلف المدن والقرى والهجر وطورت المناهج وتم الاهتمام بالبنية الأساسية للتعليم لتحقيق هذا الهدف واستكمل هذا الهدف والجهد بافتتاح الجامعات واستقطاب الكوادر التعليمية المؤهلة وابتعاث آلاف الطلاب للدراسة في الخارج؛ وذلك لإيجاد طبقة اجتماعية متخصصة قادرة على إدارة التنمية وتحقيق أهداف وتوجهات القيادة السعودية، ومثل هذه الفئة ساعدت في السابق على وصول التنمية في المملكة إلى ما وصلت إليه اليوم، حيث تم اختصار المسافة الزمنية بين الماضي والحاضر في سنوات قليلة جداً أوصلت التنمية البشرية والمكانية في المملكة إلى ما هي عليه اليوم.
إن وجود هذه الكوادر السعودية أصبح إحدى العلامات البارزة والواضحة في تنمية المملكة والعديد من دول الجوار وحقق المفهوم المتوازن للطبقة العاملة في المملكة فأخذت دورها المستهدف في مسيرة النمو والتنمية ووجدت الكوادر الوطنية المؤهلة في الأجهزة الحكومية والخاصة القادرة على فهم متطلبات التنمية ضمن منظور تنموي متوازن بين خصوصية المجتمع السعودي والانفتاح على العالم، كما انعكس ذلك على الواقع المعيشي اليومي ومتطلبات هذه الفئة من خدمات صحية وتعليمية وأسواق تجارية نموذجية وخدمات ترفيهية تنسجم مع متطلبات أبناء هذه الفئة من مطاعم ومقاه وأندية رياضية وغيرها من متطلبات الحياة اليومية، ومما لا شك فيه أن عاملين أساسيين كان لهما دور كبير في هذا الواقع، هما زيادة أعداد الطبقة الوسطى ذات المستوى التعليمي المرتفع، وكذلك ارتفاع دخل هذه الفئة؛ ما مكّنها من تحقيق احتياجاتها الجديدة.
إن المعايشة اليومية الواقعة لهذه الفئة اليوم توضح خطورة انكماشها بسبب عديد من الظروف الاقتصادية والاجتماعية وغياب الرؤية التنموية الوطنية المدركة أهمية هذا النوع من التنمية المتوازنة.
إن إعادة النظر في واقع المحافظة واحتياجاتها على بقاء نسبة الطبقة الوسطى ضمن النسبة المطلوبة لضمان استمرار التنمية من خلال ضمان الأعداد المناسبة وضمن معايير معيشية جيدة لا بد من دراسته وتوفير الإمكانات اللازمة لإعادة الأمر إلى نصابه المقبول وإطلاق هذه الفئة التي يعول عليها بعد الله ـــ سبحانه وتعالى ــــ في تنمية المملكة ووضعها في موضع تنافسي عالمي يعود بالخير على الجميع.. هل نبدأ الآن قبل فوات الأوان؟
وقفة تأمل
«أخيراً وقد طارت طيور وأفلتت
شكا الناس حتى ضاقت الأرض بالشكوى
أخيراً وما أنكى المواطن إن غدت
بظاهرة نهب اللصوص كما تهوى
أتسعفنا هذي النقاشات بعدما
غرقنا وبات الفقر صاحبنا الأقوى
أخيراً وما بعد الأخير وقبله
سوى لعبة مكشوفة تشبه الحلوى»