هل درسنا العرض والطلب في خدماتنا الصحية؟ (1)
تواجه دول العالم اليوم تحديات طبيعية وغير طبيعية في تطبيق النظم الصحية وتقديم أفضل رعاية صحية للفرد. والمملكة العربية السعودية جزء من هذا العالم، إلا أن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ سخر لها ولاة أمر راشدين وضعوا لتقديم الخدمات الصحية مكانة وأولوية عاليتين، حتى أن التعليم الصحي الذي يوفر الطواقم المتخصصة في مجالاته المختلفة أصبح يشار إليه بالبنان من كل مكان. في وضع كهذا دائما ما نسأل الله أن يديم علينا نعمه، ويعيننا على الحفاظ على ما اكتسبناه، ونعمل ليدوم ما يقدم للناس من خير سخره الله إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
إن قضية العرض والطلب في الخدمات الصحية قضية تتعلق بعوامل عدة منها إعداد القوى العاملة المتخصصة في المجالات المختلفة وحجم الميزانية التي تقر، وتقديم الخدمة بكيفية وآلية تضمن عدالة التوزيع، وحقوق كل فرد فيها، وغير ذلك من عناصر مؤثرة يمكن في مجموعها أن تحقق النتائج المرجوة أو تقلب المعادلة فتكون الخدمة على المحك وبالتالي يحدث ما لا تحمد عقباه. هذا يجعلنا حريصين على أن نقوم بالدراسات المتواصلة والمستمرة في هذا الموضوع نظريًا وعمليًا لتحقيق التوازن على أقل تقدير، مع علمنا بأن الوضع الصحي في المملكة يختلف من حيث التمويل ومستويات تقديم الخدمة وبعض العوامل الأخرى التي قد يطول الحديث عنها.
لا شك أن التفاوت في تقديم الخدمة بين دولة وأخرى يصل إلى مقدم الخدمة ولا يقف عند قطاع أو منشأة أو قسم في مرفق صحي. ما يهمنا هو: هل هذا التفاوت منظور ومدروس وموضوع له الخطط العلاجية والخطط البديلة فنمنع تفاقمه أو التسبب في الإساءة لكل الجهود المبذولة وهي مقدرة بلا شك؟ أن استمرار التفاوت الكبير في تقديم الخدمات الصحية بين المناطق بمقارنة ما يطلب ويعرض وما ينجم عن ذلك من مشاكل صحية ينقلها الإعلام ليحرك أصحاب القرار والمسؤولين ليعني أن هناك ثغرات تحتاج إلى دراسات متعمقة حتى لا يختل التوازن. فقد يتطلب الأمر إجراء عمليات مهمة في جازان، وتكثيف تواجد بعض الأطباء المعروفين والمشهورين في بعض التخصصات في الجوف، وتوفير حضَّانات أكثر في مستشفيات أبها، وما إلى ذلك من حلول خدمية و''تسويقية'' تساعد على جعل العرض والطلب يسيران بصورة أقرب إلى التوازن؛ حيث يرتفع مستوى الثقة في نفوس المستفيدين من الخدمة وتتحقق السعادة والرضا لدى مقدمها وينعم الجميع بتحقيق ما تم تخصيص الموارد من أجله وهو ثمين جدا في هذا الزمن.
قد يتطلب الأمر إعادة دراسة دوام العمل في مراكز الرعاية الصحية الأولية فيتحدد الوقت الممكن فيه تقديم الخدمة في كل منطقة بدلا من توحيد العمل في جميع المملكة في الوقت نفسه وبالآلية ذاتها. وقد نلجأ لدراسة وضع مجتمع المنطقة، فالمناطق الساحلية تميل إلى الاستفادة من أوقات اليوم المسائية أكثر من الصباحية لظروف درجات الحرارة والرطوبة واعتدال الجو، أما في المرتفعة فتميل إلى الاستفادة من الأوقات الصباحية المبكرة، حيث نقاء الهواء وصفاء الرؤية وجمال المنظر وفوائد كثيرة يرونها في الاستفادة من شروق الشمس ووضوح الرؤية. هذا بجانب أن تكون الدراسة آخذة في الاعتبار ما إذا كان دواما واحدا أم دوامين ومدة كل منهما ومتطلبات كل فترة. قد نغير حركة ونوعية وسائل المواصلات المستخدمة وتوفير الأنسب لكل منطقة، فيكون التأثير من دراسة واحدة خاصة إلى عمومية وشاملة لقطاعات أخرى تحفز على إجراء دراسات أخرى تحسن من تقديم خدماتها المجانية أو التي بمقابل.
من هذه الدراسات يمكن لنا معرفة الكثير من الجوانب التي تتطلب تدخلا سريعة كما تحقق لنا فوائد لا حصر لها. فمثلا سنحول فكر المجتمع في الاستفادة من خدمات الرعاية الصحية الأولية لتواجدها وتوافرها وانتشارها بدلا من الإصرار على الحصول على خدمات المستشفيات سواء في العيادات أو الطوارئ مما يخفف العبء على فاتورة الخدمات على مستوى المملكة. ناهيك عن التكاليف التي سيتم تحجيمها في أقسام الطوارئ إذا ما علمنا أن رغبة الفرد في زيارة الطوارئ أكبر من الوقوف على أعتاب مراكز رعاية أقل تكلفة أو مجانية. كما يحول المخصصات لتحسين وضع مبان أو تجهيزات أو توظيف قوى عاملة تساعد على دفع عجلة الخدمات المتطورة. فمثلاً في دراسات الفاعلية والسعة السريرية وغيرها من الدراسات التالية ستبين لنا حجم الاحتياج من الأسرة ونوعيتها وتوزيعها العادل وإعداد القوى العاملة المتخصصة وفي أي التخصصات وبأي المواقع وما هي الخدمة المطلوب وبأي مستوى تقدم... إلخ.
إن دراسات التنبؤ من خلال دراسة العرض والطلب لخدمات تقدم مجانا أو مدفوعة بثمن مباشر أو عن طريق بوالص التأمين يمكن أن ترشدنا إلى واقع ما نقدمه في كل منطقة على حدة، فلا يكون ''هزال'' هنا ولا تكون ''هلهلة'' هناك. ولا يتم التسبب في ''عاهة'' هنا ولا في ''وفاة'' هناك. ولا نؤثر في حجم القوى العاملة المتخصصة أو يتم الاجتهاد في تنفيذ إجراء. وللحديث تتمة.