هل درسنا العرض والطلب في خدماتنا الصحية؟ (2)

في الواقع لو حاول أصحاب القرار في الشأن الصحي التساؤل ومحاورة أهل العلم والاختصاص، فقد تبرز لهم بعض الأفكار التي قد تساعدهم على فهم كثير من الظواهر والأحداث التي تتعلق بالخدمات الصحية عرضا وطلبا. من ذلك: ''إذا كان ما يعرض من خدمات ينفق عليه بعشرات المليارات وما يطلب يمكن أن نقدمه ببضع آلاف أو مئات الآلاف من الريالات فهل سيتكرر سيناريو الأخطاء الطبية، وارتجالية اختيار التنفيذيين، وتكرار عشوائية البناء، وعدم التدقيق في ماهية التجهيز، واستمرار سوء التخزين، والوقوع في مسائل الصلاحية وتواريخها... إلخ؟ ما مصير الخدمة إذا ما استمررنا نعمل بآلية الشراء واستغراق السنوات نفسه لتوفير جهاز أصبح لا يستخدم؟ هل العرض أن نوفر أسرّة جديدة كل عام، في حين أن الطلب على نوعية الممارسين الصحيين وجودة الأداء؟ ما مصير الخدمة إذا كان الطلب عليها عاليا وامتدت قائمة الانتظار لشهور وسنين طويلة في بعض التخصصات استمرت لفترة أطول من فترة إعداد أطباء في هذا التخصص؟ ماذا يحدث إذا لم يكن يتوافر نوع من التخصصات بالقطاع الحكومي وحتم الوضع على المريض طلب الخدمة بمقابل وهو لا يستطيع الدفع، وكان البديل أحد المنذرين بالإغلاق؟ ماذا يحصل لو أن ذوي التأهيل الأقل استبعدوا ولم نبدأ في تدريبهم وإعادة تأهيلهم للاستفادة منهم فتأخرت الاستفادة منهم حتى تقدم بهم العمر؟ هل لدينا أجوبة مقنعة لتبرير المعروض وتلبية المطلوب؟
ليتنا نخطط لتخلص من المفاهيم السائدة لدى العامة حتى يكون الطلب محفزا لتنويع المعروض وأسلوب عرضه. فاجتماعيا هناك رغبة في الحصول على الخدمة الصحية بالمستشفى، ويسري ذلك على كل أوقات اليوم. فهل يمكن توجيه أنظار العوام ومفاهيمهم إلى ارتياد المراكز الصحية أو الاتصال بطبيب الأسرة؟ ليتنا نراعي أن ما عودْنا عليه العامة عبر عقود، لا بد أن نصبر على تحويله بالبدء في فك القيود وتحسين المردود بتكثيف الجهود؟ هذه النزعة تولدت عبر زمن طويل، ومن الصعب التغلب عليها بمجرد كلمة. ستكون ردة الفعل قوية في البداية، لكن وزارة الصحة ستملك الردود على ذلك، فالخبرة التي تجمعت لديها والإعلام المتجدد في طرحه يمكن أن يكونا عاملين محفزين لتغيير المسار والمفاهيم، شريطة أن تتناغم أعمالهم في النهاية.
إن القيام بدراسات في حساب التكلفة وقياس مسألة العرض والطلب على الأسس المعروفة أصبحت إلى حد ما لا تتوافق ونوعية المنتج، في حين أننا نريد أن يكون هناك حسابات جديدة تقنع صناع القرار بأن الخدمات المقدمة في المرافق الصحية العلاجية على سبيل المثال موجهة، حيث حاجات المرضى والأمراض التي يشتكون منها، وليس حسب التقسيم الكلاسيكي الذي عهدناه في هذه المرافق ''السرير والأقسام الطبية والمباشرة التقليدية للحالات''. في التعليم الطبي بدأت بعض كليات الطب البشري في العالم في إعادة النظر في التخصصات الطبية وطرق التدريس بمحاولة تحوير محتوى المقررات الدراسية وأساليب تدريسها. هذا تطلب أيضا تعديلا أو تحويرا في هيكلة المستشفيات، ومن ثم إدارتها لتتوافق المهمتين ونوعية الطلب على الخدمة. وإذا ما نجحت المهمة أكاديميا في دول عدة فسنكون دائما بعيدين عن كل تغيير، ونستمر ننهل من الغير، ولدينا المبدعون.
لا بد أيضا أن تكون هناك دراسات تتعلق بالخدمات خلال العطل الأسبوعية والسنوية، ولتكن على مستوى كل منطقة على حدة. ثم التحرك بالقيام بإجراءات عملية إيجابية تجعل أسلوب الاستهلاك والاستخدام مبنيا على ما يقدم ويستخدم من موارد وليس على ما تقرره المنشأة. كما لا بد أن تحسب مدة بقاء المريض على السرير الذي ينتظر تدخلا طبيا علاجيا في ظل تواجده خلال هذه العطل أو في ظل عدم وجود استشاري متخصص أو بانتظار أن يشغر سرير في أقرب مرفق علاجي يمكن أن يقبل الحالة ويباشرها من دون أي مماطلة جديدة أو تأخير. في هذه الظروف ما ينتظره المريض ويطلبه قد لا يتوافر أو قد لا يكون معروضا، لكن بين العرض والطلب هناك خدمات ثانوية تقدم في فترة أدخلت في الحساب عنصرا جديدا يحتم إعادة النظر للمعروض بعد معرفة المطلوب.
قد لا نتحمس بشدة لتطبيق النظريات الاقتصادية من دون النظر إلى الخدمة عرضا وطلبا، سواء في نظام الخدمات المجانية أو النظام المدفوع. هذا لأن النظرة الاقتصادية القائمة على التوفير تلغي أحيانا جانب النوعية والجودة في الأداء وتنوع ماهية الخدمات لارتفاع التكاليف وتطور نوعية الخدمات وسرعة التغيير وطول المدد. وهذا في حد ذاته مسار إذا ما أرادت الجهات اتباعه؛ فالحرص من الاندفاع فيه إلا بمراجعة وتحت نظر أهل الاختصاص.
لقد آن الأوان لأن يتحرك مركز للأبحاث الصحية فيقود شتات الدراسات التي تعتمد كل منها على مصدر يمكن أن يوجه النتائج لمسارات لا تحقق الأهداف، وقد تتسبب في كثير من القرارات العاجلة على المستويين التعليمي والتطبيقي في الشأن الطبي. كما أن الدراسات المتتالية والمتنوعة والمجراة بالتعاون بين الجهات المختلفة عادة ما تنقلنا من الكلاسيكية إلى الإبداع والتحرك بموضوعية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي