نحن المساكين أيها الكتاب !
كأني أراك أيها الكتاب حزين قد عصفت بك الأزمات و تكالبت عليك الظروف والمتغيرات في العصر الحديث. وأصبح الناس بك زاهدين و منشغلين , وكلما ذهب زمن جاء الذي بعده فزادهم عنك بعدا وانشغالا . واليوم ربما أصبحت بعض الكماليات أهم منك , وما علموا أنك ضروري كالأكل والشراب والهواء, فأنت بلا شك غذاء للعقل, وسموٌ للروح ولكن لا يعي ذلك إلا القليل منا.
في يوم 23 أبريل من كل سنة يحتفل العالم باليوم العالمي للكتاب , فيقيمون له المهرجانات والاحتفالات , و المسابقات التشجيعية لاقتنائه وقراءته, ولكن ما أن ينتهي هذا الحماس المؤقت حتى ينسوك على الرفوف , و لتعود إلى وحدتك التي قد اعتدت عليها وقلبك منكسر , فهم هجروك لأسباب قد تكون أقل أهمية وربما تافهة !.
في السابق كانت المجلات والصحف تنافسك أشد المنافسة ثم جاءت السينما الصامتة فالمتحركة , وطل بعد ذلك التلفاز , ثم جاءت الأزمة الكبرى في الفضائيات فهم من كل صوب وحدب يبثون. واليوم تعقدت الأمور أكثر فأكثر بوسائل كثيرة منها الهواتف والجوالات , والانترنت والايميلات , وتوتير و واتس أب , وغيرها.
لقد كان لهذه الوسائل أعظم تأثير على الكتاب والقراءة , والدراسات والإحصائيات تبين هذا التأثير بشكل واضح , ومنها على سيبل المثال أن مجموع ما يقرأه 20 عربي يساوي كتاباً واحداً في السنة ! , بينما يقرأ البريطاني 7 كتب أي ما يعادل قراءة 140 عربي , ويقرأ الأمريكي 11 كتاباً أي ما يعادل قراءة 220 عربياَ !.
ولكن أسمحوا لي أن أنقلكم عن هذه الإحصائيات المحزنة إلى زمن ليس بالبعيد حيث كانوا يعشقون الكتاب حتى الثمالة فقد كان عندهم عزيزا لا مسكينا ! , لعلي بذلك استحث بعض من الهمم , ولعلي أيضا أشحن بطاريات القلوب والعقول شحنا كافيا إلى حين السنة القادمة حيث نحتفل بيوم الكتاب مرة أخرى !.
ذلك الزمن الذي قال فيه العقاد يوما وهو غاضب ومعاتب بسبب أن البعض استكثر عليه بعض النقود القليلة ( 200 جنيه) لمقابلة أجراها في التلفزيون " هل كثير على رجل كالعقاد قرأ ستين ألف كتاب !! , واصدر ستين كتابا, وأفنى عمره في عالم الفكر والفن , أن يتقاضى هذا المبلغ.... إن مفعوصة مثل نجاة الصغيرة تتقاضى ما هو أكثر من ذلك في عشر دقائق " , وما ظنكم بما سيقوله العقاد لو سمع عن الأرقام الفلكية للاعبي كرة القدم !.
يقول الشيخ على الطنطاوي عن نفسه في مذكراته " فلو قدّرت لكل يوم مئة صفحة ( وأنا في الحقيقة أقرأ أضعافها ) لكان مجموع ما قرأت مليونين ونصفا من الصفحات !".
ولو عدنا بالزمن إلى أبعد من ذلك بقرون لوجدنا الجاحظ يتحدث عن الكتاب فيبدع ويقول " هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك , وشحذ طباعك, وبسط لسانك , وجوَّد بيانك , وفخَّم ألفاظك, وعمَّر صدرك , وحباك تعظيم الأقوام , ومنحك صداقة الملوك , يطيعك فـي الليل طاعته بالنهار , وفي السفر طاعته فـي الحضر".
ولكني أقول أيها الكتاب لله درك فقد صمدت كثيرا , وعشت طويلا حتى زاد عليك الضغط مع بداية القران العشرين ثم ازداد أكثر في القرن الحالي بسبب كثرة المُلهيات , والتطور المذهل و المخيف للتكنولوجيا ,وهل ستكون ذكرى في القرن القادم ؟ يرويها الأجداد للأحفاد بأنه كان هناك شيء يُحمل بين اليدين , له دفتين بينهما أوراق يمّسونه الكتاب.