لطائف التكرار

قد يكرر الواحد منا بيت شعر جميل سمعه أو حكمة أبهرته أو حديث شريف لامس قلبه وقشعر منه بدنه فظل يردد ذلك تارة بلسانه وتارة بعقله ليبقى محفورا أبد الدهر. وأحيانا قد نكرر السؤال أكثر من مرة لنستوعب ونفهم جيدا , وهذا الموضوع بالذات كنا نهابه منذ كنا طلابا صغارا حتى لا يقال عنا أننا بطيئوا الفهم , وحتى لا يوجه إلينا اللوم على محمل التقريع والاستهتار.

وحتى عندما كبرنا ما زال البعض يعتقد إن في التكرار مشكلة أو عيب، فهل هذا صحيح، وهل هناك مسوغ أو دافع حقيقي لهذا المعتقد، أم أنه من باب حط الهمم و التهويل بدون دليل علمي أو إحصائي أو تاريخي.

ولكننا توقفنا قليلا وفكرنا في هذه المسألة لوجدنا أن العكس هو الصحيح بمعنى أن الأصل هو التكرار من أجل الفهم أو الحفظ أو التنبيه لموضوع مهم, ودعونا ندلل على ذلك بعدة نقاط.

ولنبدأ أولا بالقرآن الكريم وكفى به دليلا فقد تكررت بعض الألفاظ في عدة مواضع، بل إن هناك آية واحدة تكررت في سورة واحدة 31 مرة! وهي (فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان) في سورة الرحمن، وكذلك ذُكرت جملة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في 89 موضعاً من القرآن.

وثانيا في الحديث النبوي ما يدل وجود التكرار في بعض الألفاظ لبيان أهمية الأمر , و من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام " رغم أنفه ، رغم أنفه ، رغم أنفه قالوا : يا رسول الله من ؟ قال : من أدرك والديه عند الكبر ـ أو أحدهما ـ فدخل النار " , وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر " ألَا هلكَ الْمُتَنَطِّعونَ ألَا هلَكَ المتنطِّعونَ ، ألَا هلكَ المتنطِّعونَ " وغيرها من الشواهد الكثير.

وثالثا لو تفحصنا التاريخ جيدا لوجدنا قامات عالية من علماء وعظماء كانوا يكررون ويكررون من أجل الحفظ والفهم . وذكر عن أبي مسعود الرّازي : أنّه كان يكرر كل حديث خمسمائة مرة. وقال له رجل : إنا ننسى الحديث ؟ فقال : أيكم يرجع في حفظ حديث واحد خمسمائة مرة ؟! قالوا : ومن يقوى على هذا ؟ فقال : لذاك لا تحفظون. وقال المزنيّ رحمه الله قَرأت الرسالةَ (كتاب الشافعي في أصول الفقه ) خمسمائة مرة، ما من مرٍة إلا واستفدت منها فائدة جديدة.

ومن لطائف في قضية التكرار ما ذكره ابن الجوزي أن فقيها أعاد الدرس في بيته مرات كثيرة ، فقالت له عجوزٌ في بيته : قد والله حفظته أنا ، فقال : أَعيديه فأعادته، فلما كان بعد أيامٍ ، قال : يا عجوز أعيدي ذلك الدرس ، فقالت: ما أحفظه ، قال : أَنا أُكرر لئلا يُصيبني ما أصابك.

وأكاد أجزم بأن الذي يكرر ليحفظ أو يكرر الأسئلة ليفهم هو صاحب همة عالية , أوليس ذلك خير من الذي يهز رأسه مدعيا الحفظ والفهم وهو لا يعي شيئا !.

وصدق من قال " التكرار يعلم الشطار " .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي