أبناء التقشف

عندما يناقش خبراء الاقتصاد قضية ''تصحيح الأوضاع المالية'' فإنهم يحرصون عادة على صياغة الأمر كهدف مجرد ومعقد. ولكن القضية بسيطة في حقيقة الأمر: من سيتحمل العبء الأكبر للتدابير الرامية إلى خفض عجز الموازنة؟ والإجابة إما أن تكون في زيادة الضرائب على بعض الناس، أو خفض الإنفاق ـــ أو الأمرين معا. إن عبارة ''تصحيح الأوضاع المالية'' لغة اصطلاحية؛ فالتقشف يدور دوماً حول توزيع الدخل.
وبطبيعة الحال، يعي قسم كبير من أوروبا هذه الحقيقة بالفعل. والآن جاء دور أمريكا. وتشير الدلائل الحالية هناك إلى أن الأشخاص الأكثر عُرضة لتأثيرات الضائقة المالية هم هؤلاء الأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم ـــ الأطفال الفقراء نسبيا. على سبيل المثال، بدأت تخفيضات الإنفاق الشاملة ''سيكويستر'' في الإضرار ببرامج مثل ''هيد ستارت'' (ميزة الأسبقية)، التي تدعم التعليم قبل المدرسي.
وهناك تخفيضات أكبر كثيراً تنتظر برامج التغذية في مرحلة الطفولة المبكرة وبرامج الرعاية الصحية. ولعل التخفيضات الأكثر هولاً هي تلك التخفيضات لبرنامج التأمين الصحي ميديك ايد الذي تبنته الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب في آخر مقترحاتها بشأن الميزانية. ويقترح بول ريان، رئيس لجنة الموازنة في مجلس النواب موازنة الميزانية على مدى السنوات العشر المقبلة إلى حد كبير من خلال خفض هذا البرنامج. والواقع أن نحو نصف الأشخاص الذين يغطيهم برنامج ميديك ايد من الأطفال.
هل من العدل أن نرغم الأطفال من ذوي الدخول المنخفضة على تحمل عبء تصحيح الأوضاع المالية؟ وفقاً للبيانات المتاحة على الموقع العظيم القيمة الذي أنشأه رجل الاقتصاد الفرنسي إيمانويل ساز على شبكة الإنترنت، فإن متوسط الدخل الحقيقي أثناء الفترة 1993 ـــ 2011 بالنسبة لشريحة الـ 99 في المائة الأدنى من السكان ''من حيث الدخول'' ارتفع بنسبة 5,8 في المائة، في حين شهدت شريحة الـ 1 في المائة الأعلى دخلاً نمواً حقيقياً في الدخل بلغت نسبته 57,5 في المائة. واستأثر أفراد شريحة الـ 1 في المائة الأعلى بنحو 62 في المائة من إجمالي نمو الدخل على مدى هذه الفترة، ويرجع هذا جزئياً إلى الارتفاع الحاد في العائد على التعليم العالي في العقود الأخيرة. (في المتوسط، لا يحظى أولئك الذين أكملوا تعليمهم الثانوي فقط أو لم يكملوه بتوقعات طيبة فيما يتصل بالدخل).
وهذا يعني ضمناً أن النظام الضريبي لابد أن يصبح أكثر تدرجا، في التعامل مع العائدات المستثمرة في المنافع العامة التي لا يوفرها القطاع العام بالقدر الكافي ــــ مثل التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة والرعاية الصحية الوقائية من أجل الحد من الانقطاع عن التعليم نتيجة لأمراض شائعة مثل ربو الأطفال.
ولنفكر في الأمر بهذه الطريقة : في العقود الأخيرة، اختارت بعض الأسر مواقع ومهن بدت وكأنها توفر لهم سبيلاً معقولاً للدعم ــــ وتوقعات طيبة لأطفالهم. ولكن العديد من هذه القرارات انتهت إلى نتائج سيئة، ويرجع هذا غالباً إلى حقيقة مفادها أن تكنولوجيا المعلومات كانت سبباً في القضاء على العديد من وظائف الطبقة المتوسطة. ولم تكن زيادة عولمة التجارة مفيدة في هذا السياق أيضا. فضلاً عن ذلك، ووفقاً لأبحاث تيل فون واشتر من جامعة كولومبيا الموثقة، فإن الفترات المطولة من البطالة بين الآباء تؤدي إلى تأثيرات سلبية شديدة ودائمة في أطفالهم.
إن الأطفال الذين لا تستطيع أسرهم أن توفر لهم بداية طيبة في الحياة يستحقون المساعدة. ولكن أمريكا لم توفر لهم هذه المساعدة ــــ وهي النقطة التي أكدها أخيرا جيب بوش، أحد أبرز المرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية في عام 2016 عن الحزب الجمهوري.
وبطبيعة الحال، فإن أمريكا قادرة بسهولة على تقديم ما هو أفضل. ذلك أن عجز الميزانية الضخم لديها يعكس تأثير الإعفاءات الضريبية التي تحابي الأثرياء وأبناء الطبقة المتوسطة العليا؛ والتوسع غير الممول في تغطية برنامج الرعاية الطبية، حيث يشمل العلاجات الموصوفة؛ وحربين في الخارج؛ وفي المقام الأول من الأهمية النظام المصرفي الذي سُمِح له بالخروج عن السيطرة فتسبب في تعريض الاقتصاد الحقيقي ''وبالتالي العائدات الضريبية'' لاضطرابات هائلة.
إن أطفال اليوم لم يلعبوا أي دور في أي من هذه الأخطاء السياسية. ولم يكن الأطفال في سن ما قبل الدراسة، والذين يوشكون على خسارة برنامج هيد ستارت، قد ولدوا عندما ارتكبت تلك الأخطاء.
إن فرض التقشف على الأطفال الفقراء ليس ظلماً فحسب؛ بل إنه أيضاً اقتصاد رديء. وعندما يتحدث خبراء الاقتصاد بمصلحتهم الجافة عن ''رأس المال البشري'' في البلاد، فإن ما يقصدونه حقاً هو القدرات الإدراكية والمعرفية والبدنية لمواطنيهم.
ولكن يتعين عليهم أن يفعلوا ذلك. عندما تسافر إلى بلد أجنبي لأول مرة، فترى أطفالاً مهملين ويعانون من سوء التغذية ورداءة التعليم، فهل تتصور أن تلك الدولة من المرجح أن تصبح واحدة من القوى الاقتصادية العظمى في العالم في غضون نصف القرن المقبل؟ أم أنك تشعر بالقلق على مستقبلها؟

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي