التربية المالية للأبناء بين القناعة والفقاعة
لكل شيء عصب، والعصب هو الذي لا يمكن الاستغناء عنه، فبه تشعر وتحس وتتفاعل، هكذا يقول علم فسلجة الأعضاء، لكن للعلوم المالية وجهة نظر أخرى، فعصب الاقتصاد عندها هو المال، فيه تقوم المصالح، وتنمو الثروات، وتدوم الحياة، وتتحرك في اتجاه منتظم مستقر لو تذبذب لتذبذب معه الكثير من مرافقها، وتعذر الرسو في مرافئها.
ومن هنا أنطلق لأكمل ما بدأته حول التربية المالية للأبناء باعتبارها الأساس في تربيتهم الحياتية التي تضمن لهم استقرارا على الصعد كافة، وأركز على فئة الراشدين بعد أن أخذ الأطفال نصيبهم في المقال السابق، إذ نعيش اليوم في عالم محاط بالتحديات وأخص بها التحديات المالية، وهي كثيرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك التضخم الداخلي والمستورد، فكلما زاد ضخ المشاريع الحكومية ارتفع معها التضخم وارتفعت تكلفة المعيشة على الفرد، حيث كان مستوى دخله عام 1980 يساوي 16,692 دولاراً في السنة بما يعادل 62,595 ريالاً، وفي عام 2011 وصل دخل الفرد إلى 20,777 دولاراً تقريباً أي ما يعادل 77,913 ريالاً أي خلال 31 سنة لم يتجاوز الارتفاع في دخل الفرد 25 في المائة، وهناك عوامل كثيرة سببت هذا النمو البطيء لدخل الفرد مثل انهيار أسعار النفط، والانفجار السكاني وغيرها الكثير.
ولكي نحدد سقف التوقعات لدينا في خضم هذه الظروف، ونكون واقعيين مع أنفسنا وأبنائنا لنعرف أن عمر الشاب عندما يصل في الدول الغربية إلى 18 سنة يطلب منه الخروج من البيت وتحمل مسؤولية نفسه، وقد يرفض الكثير هذا الأسلوب، خصوصاً التربويين فنحن بطبعنا العربي الكريم الذي خرج من بيئة حاتم الطائي مضرب مثل الكرم لدى العرب، ولا نقبل هذا التصرف مع الغريب فكيف بأبنائنا؟
أنا لا أعتقد أن الأمرين متضادان، فعندما نخضع أبناءنا للعيش في عالم غير واقعي فنحن من سيدفع الثمن في النهاية، فاليوم –وللأسف - أصبحت لدى الكثير من العائلات السعودية عادة السفر في أي إجازة مدرسية، وطبعاً هذه الإجازة ليس لها علاقة إذا كان هذا الابن حقق إنجازاً أو لم يحققه، وبهذا يصبح السفر حقا مكتسبا للابن أو البنت في الحصول على إجازة مع سفرة خارج أو داخل المملكة لكل إجازة، وهذا أمر ليس واقعياً في الحياة العملية.
إذن، إذا كان لديك ولد أو بنت وصل سن 18 يجب عليك أولاً أن تحدد له مصروفاً شهرياً ''والمفروض قبل هذا العمر''، وبشكل يشمل كل ما تنفقه على الابن أو البنت، مثل أن تقول لابنك أو ابنتك مصروفكم الشهري ألف ريال ''هذا الرقم للمثال فقط ويجب أن تكون واضحاً مع أبنائك'' وسوف أخصم منها 200 ريال للسائق، و100 ريال للخادمة و400 ريال مصاريف المدرسة الخاصة والباقي 300 ريال، ولكن يجب أن يتسلّم مبلغ ألف ريال في يده ثم تطلب منه هذه المبالغ ''المصروفات''، بهذا يكون الابن أو البنت قد بدأ يشعر بقيمة المال، وقد يأتي بعد فترة ليقول: ''لا نريد خادمة في البيت''، أو ''لا أحتاج إلى مدرسة خاصة''، وهكذا يبدأ الابن والبنت بالتفكير في تنظيم أموره والتوفيق بين ما يحتاج وما لا يحتاج إليه بالفعل.
الأمر الثاني: لا تعط أبناءك أكثر من حاجتهم بل أقل منها بقليل، ويجب أن يتعلموا كيف يكسبوا المال في سن صغيرة، مثال إذا كانت احتياجاتهم الشهرية تساوي ألف ريال أعطهم 900 ريال وقل لهم ممكن أعطيكم 200 ريال شهرياً إذا ساعدتموني في عمل كذا مثال توصيل إخوانك للمدرسة وبهذا نستغني عن السائق وهكذا.
الأمر الثالث: يجب أن يتعلم الابن العطاء من دون مقابل مثل أن يشارك في الأعمال التطوعية على أقل تقدير ساعة في الأسبوع، أو ينفق مبلغا من دخله الشهري، ويجب على الوالدين أن يقدموا له مكافأة ولكن لا تكون نقدية، لأنه يجب أن يتعلم العطاء لمجرد العطاء.
الأمر الرابع: لا تعاقبه إن أخطأ، فهذا أمر طبيعي، ولكن علمه ما هو الصحيح، ولا تضعف إذا صرف دخله الشهري كاملاً على جوال أو غيره، ولا تعطه النقود مجاناً، بل مقابل عمل أو دين يسدده خلال ثلاثة أشهر كحد أقصى.
الأمر الخامس: كن واقعياً مع ابنك فقد يقع في مشكلة -لا سمح الله-، على سبيل المثال قد يحدث له حادث ويتطلب مبلغ عشرة آلاف ريال لإصلاح السيارة، فلا تبادر مباشرة وتدفع المبلغ، أولاً إذا كان هو المخطئ اسأله كيف سيسدد هذا المبلغ، وإذا اقتنعت وأيقنت أنه يستطيع السداد ساعده، وإذا التزم يمكن أن تسقط عنه جزءاً من المبلغ.
بهذه الأمور نستطيع أن نخرج أبناءنا من الفقاعة التي يعيشون فيها إلى واقع الحياة، هذه الأمور للأسف لا يتعلمها الأبناء في المدارس ولا في البيوت وإنما يتعلمونها في عمر 23 سنة عادة، وتكون الأخطاء فيها موجعة غالباً، قد يقول القارئ هذه قسوة، ولكني أقول هذه تربية للعظماء وقادة المستقبل، وحسب ما أظهرت الدراسات أن أغلب العظماء في العالم تحملوا المسؤولية في وقت مبكر، لهذا يجب أن نربي أبناءنا تربية العظماء إذا كنا نريدهم عظماء بالفعل لا مجرد أطفال مدللين وإن بلغوا سن الرجولة!