تعريب العلوم التطبيقية .. الممكن والمستحيل (2)

فعليًا كانت هناك عوامل تجعل تعريب المناهج والبرامج التعليمية إجمالا، خصوصا التقنية والمهنية منها، أمراً مستحيلا. لقد كانت الفروق بين الجنسين في التعليم وعدم التكافؤ في الفرص والحقوق واضحة. كما ظلت لعهد قريب، فكان يصعب على الإناث القبول في بعض التخصصات، هذا عدا أن محدودية الانتشار للتعليم ما فوق الثانوي على مستوى المناطق أو المحافظات. من ناحية أخرى التمكن اللغوي المحدود بفئات وأعداد بسيطة من أفراد المجتمع لضعف تقبل المجتمع التوجه نحو تعلم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية مثلا. هذا ينطبق على تنامي أعداد التخصصات العلمية التطبيقية التي لم يتوافر فيها آنذاك النشر العلمي باللغة العربية أو توافر القدرات التقنية لترجمة النصوص مثل اليوم. الآن وقد أصبح كل ذلك تاريخا وبدأت العجلة تتحرك في كل اتجاه مستفيدين من كل طاقات الموارد البشرية في المواقع كافة، فإن المستحيل أصبح ممكنًا.
إذا ما بادرنا بإيجاد حلول للقضية فهناك ثلاث مشكلات تحتاج إلى قيادات تتدخل لتحسم الموضوع. المشكلة الأولى اجتماعية والثانية نظامية والثالثة وظيفية. فالأولى إقبال المجتمع على كليات أو معاهد قد لا يجد خريجوها قبولا في الجامعات العالمية، وبالتالي يكون ذلك ومن دون تحضير جيد نهاية مطاف غير سعيدة، بل معطلة للجهود من الأطراف كافة. أما من ناحية ''النظامية'' فالاعتراف محليا أو خليجيا بالمناهج والخريجين بمؤهلات أُعدت برامجها في مثل هذه التخصصات باللغة العربية، سيكون مثار جدل إن لم يكن مرفوضا للشك في مستوى البرنامج، والمعارف، وجنسية وجنس الأستاذ. أما بالنسبة لـ ''الوظيفية'' فهي تكالب أطراف قطاع الأعمال على اشتراط التمكن من اللغة الإنجليزية عند التقدم لوظيفة ما؛ حيث يُرفض العديد من المتقدمين ولا خيار لهم إلا أن يتعلموا اللغة من خلال دورات جانبية تمتد لشهور عدة حتى يتمكنوا من القبول المشروط أو التوجه نحو الشوارع لقياس أطوالها.
إذا أردنا أن نسير في هذا الاتجاه فليس لنا إلا أن نتبنى ما تبناه غيرنا من وضع أيدي المسؤولين في أيدي المستفيدين أو المجتمع بأفراده من الجنسين وبناء الثقة بين الطرفين قبل كل شيء. ليكن ذلك في منظومة استراتيجية تقودها جهة يمكن أن تكون مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، مع أني أميل شخصيا إلى أن تكون في جهة غيرها. بالطبع لا بد من الزيارات الرسمية العلمية لمثل الدول المذكورة وغيرها، لكن لا بد أن تكون الزيارات مهنية الإعداد احترافية الأداء (أشخاص مؤهلون ومواضيع محددة) واضحة الأهداف. من المؤكد أننا سنتعلم أسرار التقدم والتطور في الإنتاجية والتميز وفي الوقت نفسه المحافظة على الهوية كما تحقق في تلك الدول. هذا سيجعل لدينا وضوحاً في الرؤية، وزرع الثقة المتبادلة، وعزيمة كبيرة تحافظ في الوقت نفسه على الإنفاق المتوازن والمرونة في وضع الأنظمة. هي مطالب لا غنى عنها وممكنة غير مستحيلة. يمكن لنا أن نعتمد شيئا فشيئا على المتميزين من العائدين المتخرجين في برنامج خادم الحرمين للابتعاث الخارجي كأدوات تنفيذية بعد صقلهم وتدريبهم ليكونوا محترفين حتى لا نخفق في أي خطوة قادمة بعد ذلك.
ثم من بعد ذلك يأتي الوقوف على حالة الترجمة والنشر للغة العربية. خلال هذه المرحلة لا بد أن نوقف الأعذار التي عادة ما نصنعها مثل:
(1) عدم توافر مراجع باللغة العربية.
(2) صعوبة إيجاد المتحدثين باللغة العربية في كثير من التخصصات.
(3) من دون إعلام فلن يجدنا أحد على خريطة التنمية.. وغير ذلك من أعذار واهية.
إن الاستمرار في هذا التباكي تجميد للمخيلة وتحجيم للإبداع وطريق لإيقاف مسيرة للغةٍ يفترض أن مستخدميها بلغوا قرابة 500 مليون نسمة على مستوى العالم وليس خمسة ملايين فقط. كما أننا يجب أن نعرف أن لغتنا أصبحت الرابعة في العالم بعد الإنجليزية والصينية والهندية نتيجة طريقة تفكيرنا وما نمارسه بأيدينا كعرب ومسلمين، وبالتالي لا بد أن تعود للسيادة مرة أخرى.
في التعليم الصحي على سبيل المثال لدينا الآن أكثر من 32 جمعية علمية طبية وصحية سعودية في المملكة، هذا عدا الجمعيات الخيرية في المجال ذاته وقرابة 100 كلية صحية وطبية حكومية وأهلية. ولدينا هيئتان الأولى للتخصصات الصحية والأخرى للغذاء والدواء. أما من ناحية التعداد البشري المؤهل في المملكة فلدينا عشرات الألوف من السعوديين من حملة الدرجات الثلاث المختلفة (البكالوريوس والماجستير والدكتوراه) في التخصصات الصحية المختلفة، ويمكن الاطلاع على تفاصيلها بمراجعة تقرير وزارة الصحة الأخير (1432هـ) وإصدارات مصلحة الإحصاءات العامة. ألا يكفي كل هذا الزخم السعودي لنبدأ التعريب الرصين ونغتنم الوقت الثمين؟ لمَ لا نبدأ بتخصصات مثل التغذية بأنواعها، الصيدلة، المختبرات الطبية، السكرتارية الطبية، الأشعة بأنواعها المختلفة، إضافة إلى التمريض، وبالطبع التوعية الصحية، ودراسات المعلومات المختلفة بما فيها تقنية المعلومات.
ما يمكننا من التقدم بخطوات واثقة توافر استراتيجيات أصدرتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ISESCO) بعد أن صاغتها قدرات عربية وإسلامية هدفت إلى تنمية عالمنا باستدامة. وبجانب هذا التعداد الكبير للمرافق التي يديرها ويشغلها ويستفيد منها سعوديون ستكون عملية التنفيذ في حاجة إلى تنسيق فقط، وذلك لأن الإمكانات متوافرة، والمعرفة موجودة وتنفيذ الخطط لا يحتاج إلا إلى عزيمة وأمانة ليصبح المستحيل ممكنًا .. فهل سنبدأ المهمة؟ آمل ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي