دور المشاريع العملاقة في دعم اقتصاديات الدول ..

ورد في خطة التنمية الثانية (1976ــ1980) ما نصه «تعتبر الصناعات التحويلية نقطة ارتكاز في خطة التنمية بشكل عام، وستقام في المنطقة الشرقية المنتجة للزيت ـ عندما تتم دراسة الجدوى الاقتصادية ـ مصانع كبرى لجمع الغاز وتصنيعه وإنتاج البتروكيماويات وتكرير منتجات الزيت للتصدير وإنتاج الأسمدة وصناعة الصلب والألمنيوم».
هذا ما ارتكزت عليه خطة التنمية الثانية للمملكة في أواسط السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، حيث أوكلت الدولة مهمة دراسة إنشاء منطقة للصناعات لإحدى الشركات العالمية، وبعد إتمام الدراسة صدر الأمر الملكي الكريم رقم م/75 بتاريخ 1395/9/16 هـ للاستفادة من الغاز المهدر، وقضى المرسوم بإنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع لتنفيذ خطة التجهيزات الأساسية اللازمة لإعداد منطقتي الجبيل وينبع كمنطقتين صناعيتين، كما قضى بإنشاء شركة «سابك» كشركة مساهمة سعودية للصناعات البتروكيماوية.
كانت التعليقات على هذا القرار الاستراتيجي محبطة ووصلت حد التشكيك على نحو «دعهم يحلمون» و»ستصبح المصانع مجرد هياكل تعلوها الأتربة» وغيرها من التعليقات، فيما ذهب البعض إلى القول بأن تحقيق هذا الحلم ليس ممكناً.لم تلتفت قيادة المملكة في ذلك الحين إلى تلك التعليقات وانطلقت بخطى ثابتة نحو تحقيق تطلعاتها، وكانت الخطة طموحة وبعيدة المدى، وتم توفير الدعم اللازم لها على أعلى مستوى، وبتوفيق من الله ثم بفضل الدعم السخي كانت النتائج مبهرة. بلغت المدن التابعة للهيئة الملكية مكانة عالمية عالية وحققت - بفضل الله سبحانه - نتائج مذهلة، حيث تمكنت الهيئة الملكية من استقطاب العديد من المستثمرين من داخل المملكة وخارجها وبلغ حجم الاستثمارات في المدن التابعة للهيئة حتى نهاية عام 2012م ما يقارب التسعمائة (900) مليار ريال، وبلغ عدد المصانع العاملة في هذه المدن (524) مصنعاً ما بين الصناعات الأساسية والثانوية والمساندة، كما بلغ إجمالي الاستثمارات الأجنبية الداخلة للمملكة حتى نهاية عام 2012م ما يربو على (720) مليار ريال، كان نصيب مدن الهيئة منها حوالي (40 %). وأصبحت مدن الهيئة مساهماً رئيساً في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بنسبة تقارب الـ (12 %)، مما رفع حصة المملكة في إنتاج البتروكيماويات عالمياً إلى (8 %)، لتحتل المرتبة العاشرة على مستوى العالم في إنتاج البتروكيماويات.
وعلى صعيد التصدير، بلغت نسبة ما تصدره المصانع العاملة في مدن الهيئة الملكية ما يقارب الـ (71 %) من إجمالي صادرات المملكة الصناعية، و(85 %) من الصادرات غير النفطية.
إلى جانب هذا الناتج الصناعي الضخم، أنشأت الهيئة الملكية مدينتين على أقصى مستوى حضري يقطن فيهما ما يربو على ربع مليون نسمة، ووفرت للقاطنين فيهما أعلى درجات الرعاية الصحية والتعليمية والاجتماعية والبيئية، إذ بلغ عدد المستشفيات والمستوصفات ومراكز الرعاية الأولية (23) بطاقة (558) سريرا، كما أنشأت الهيئة الملكية العديد من المدارس والكليات الصناعية والجامعية والمعاهد التقنية ليبلغ إجمالي عدد الطلاب في كافة المراحل التعليمية حوالي (65) ألف طالب وطالبة.
أما عدد العاملين في مدن الهيئة الملكية فبلغ حتى نهاية عام 2012م زهاء (170) ألف موظف وعامل منهم نحو (7000) موظف تابعون للجهاز المباشر للهيئة الملكية.
حينما أستعرض هذه الأرقام والحقائق فإنني أسعى إلى تبيان ما بلغته المدن الصناعية التابعة للهيئة الملكية للجبيل وينبع من مكانة محلية وعالمية ولأثبت أن ما كان يعتبره البعض حلماً قد أصبح حقيقة واقعة يشهد لها العالم بأسره، ولأبين أهمية المشاريع العملاقة كرافد أساس من روافد الاقتصاد الوطني للدولة وتنويع مصادر الدخل فيها.
من نافلة القول أن الأفكار العظيمة لا تتحقق إلا بالجهود العظيمة وبإقامة المشاريع العملاقة التي تتناسب وعظمة تلك الأفكار، كما أن المشاريع العملاقة لا يمكن لها أن تبصر النور إلا إذا استندت إلى ركائز أساسية لعل من أبرزها:
أولاً: التخطيط المبني على أسس علمية من متخصصين ورؤية واضحة ونظرة بعيدة المدى. وقد تحقق ذلك في إنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع حيث أسندت الدولة دراسة هذا المشروع لإحدى الشركات العالمية المتخصصة في هذا المجال ولم تكتف بذلك بل كان التخطيط منظومة متكاملة حيث كان ضمن الدراسة الاستفادة من الغاز الذي كان يهدر واستغلال جزء من النفط المصدر، وحسن اختيار المناطق المثالية لإقامة تلك المدن، وتشكل في حينها ما أطلق عليه المثلث الذهبي المتكون من: الهيئة الملكية للجبيل وينبع، وشركة أرامكو السعودية، والشركة الأساسية للصناعات البتروكيماوية «سابك».
ثانياً: الدعم المادي والمعنوي الكبير لإقامة تلك المشاريع، فالدعم المادي بلا قوة دفع معنوية لا قيمة له والعكس صحيح، وفي إنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع ضخت الدولة مئات المليارات لتجهيز البنى التحتية للمدينتين وأوكل جلالة الملك خالد ـ رحمه الله ـ مهمة الإشراف ومتابعة إنشاء الهيئة المليكة لولي عهده في ذلك الحين خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ـ يرحمه الله ـ الذي تولى رئاسة مجلس إدارة الهيئة الملكية للجبيل وينبع وتابع إنشاءها خطوة بخطوة، ولم يتوقف الدعم المادي والمعنوي السخي عند إنشاء المدينتين بل استمر حتى يومنا هذا، حيث شرف خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز المدينتين الصناعيتين الجبيل وينبع بعدة زيارات وبارك مشروعي (الجبيل2 وينبع2) ودشن مؤخراً جملة من المشاريع المقامة في المدن التابعة للهيئة الملكية.
ثالثاً: إدارة تلك المشاريع إدارة مستقلة تتمتع بالمرونة والشفافية لتحقيق التطلعات، وقد حقق قادة المملكة ذلك بإنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع كهيئة مستقلة أوكل لها إنشاء وإدارة هذه المدن إدارة شاملة وخصص لهذه الهيئة ميزانية مستقلة، ومدى واسع من الاستقلال المالي والإداري لتحقق ما رسمته القيادة الحكيمة لها.
وبعد.. فإن تجربة المملكة في إنشاء هذه القاعدة الصلبة أوجدت بيئة خصبة لانطلاق العديد من الكيانات الصناعية العملاقة التي استثمرت الموارد الطبيعية إلى جانب استثمارها في بناء الإنسان السعودي نتج عنه تصدير المنتجات البتروكيماوية السعودية لتصل إلى جميع قارات العالم ليسهم ذلك في دعم وتعزيز الاقتصاد السعودي وقدرته على مواجهة الكثير من الأزمات التي عصفت بالعديد من الكيانات الاقتصادية العالمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي