«البتكوين» .. نهاية الفوضى
لا يمكن للفوضى أن تعم الوسط الاقتصادي لفترة طويلة من الزمن، وإلا فالنهاية ستكون مأساوية على الصعيدين الاقتصادي والإنساني. ترك الحبل على الغارب بلا تنظيم أو تشريع في القضايا الاقتصادية يثير شهية المجرمين والفاسدين دائما، لتكون المحصلة فوضى عفنة لا ينتفع منها سوى خبراء غسل الأموال وغيرهم ممن يتصيد ويتفنن في استخدام الثغرات القانونية للتنفيس عن شهواتهم المالية التي لا مدى لنهايتها والتي لا يمكن كبحها سوى بالقوانين الواضحة والتنفيذ الصارم. مطلع هذا الشهر تم إلقاء القبض على رجلي أعمال في مدينة ميامي في الولايات المتحدة، بتهمة استخدام العملة الافتراضية البتكوين لغسل أموال ذات مصدر مشبوه. كما تم إلقاء القبض على أحد الرؤساء التنفيذيين في مدينة نيويورك لبيعه ما قيمته مليون دولار من البتكوين لأشخاص كانوا ينوون استخدامها لشراء مخدرات. رجال أعمال وتنفيذيون جائعون للأموال، لا يهم المصدر، ما يهم عندهم تكديس الأموال وزيادتها بأي طريقة كانت، وهؤلاء القوم الأشرار يعرفون القوانين جيدا، ويعرفون كيف يستخدمون الثغرات القانونية لإشباع رغباتهم الفاسدة. رغبات قذرة، لا يمكن مجابهتها سوى بالعدالة والقانون. ولأن الفساد والشر أزليان في تاريخ البشر، يجد هؤلاء الأشرار محامين يدافعون عنهم دائما، مقابل حفنة من الأموال طبعا، محامين خائنين للأمانة، محامين امتهنوا المهنة لزيادة أموالهم لا لتحقيق العدالة ونشر الخير على الأرض.
وهذا ما دفع بنجامين لوينسكي للتدخل بالقول إن الاهتمام بالعملة الافتراضية وصل مرحلة متقدمة ولا يمكن أن تترك بلا تشريعات وقوانين منظمة. كما ذكر أن القوانين التي تطبق على الأموال وحوالات الأموال وشركات الخدمات المالية ستطبق على تعاملات البتكوين. وبنجامين لوينسكي هو المشرع المالي الأشهر في محاربة غسيل الأموال. والذي اشتهر بالوقوف بحزم وقوة في وجه المصارف التي سخرت بنيتها التحتية لتجار المخدرات والإرهابيين وغيرهم من السفلة، كما تصدى ووقف بصرامة في وجه شركات التأمين التي كانت تغطي مخاطر الشركات المتعاملة مع المنظمات الإرهابية والإجرامية. رجل أمين وصادق، صريح في وصفه وقوي في فعله. رجل كفء، أحرج زملاء مهنته الذين كانوا قبله والذين التزموا الصمت حيال ما كان يحدث في الوسط المصرفي قبل توليه مهامه كحاكم مالي لعاصمة المال نيويورك. كما علق بنجامين على المشاكل التقنية التي طرأت على التعاملات في البتكوين أخيرا وذكر أنها لن تؤثر في الأنظمة المالية بأي شكل من الأشكال.
وربما أتت تطمينات بنجامين حيال تنظيم البتكوين متأخرة، إلا أنها تعكس اهتماما بالغا بسلامة الوسط المالي في نيويورك، عاصمة المال العالمية. والغريب هنا أن ردة الفعل الأمريكية حيال البتكوين أتت بعد ردة فعل السلطات الصينية، التي منعت التعامل الرسمي بهذه العملة الافتراضية. أما موقف السلطات الروسية فكانت أكثر صرامة من الصينية والأمريكية، حيث منعت التعامل بالبتكوين كلية لإمكانية استخدامها لتمويل الإرهاب وتجارة المخدرات وغيرها من الأعمال الإجرامية. ولعل تأخر الولايات المتحدة في فرض الرقابة على البتكوين أتى نتيجة لكونها مصدر العملة وبداية انطلاقها. ولعل من الأسباب الأخرى لتأخر التنظيم في الولايات المتحدة وجوب وجود سند قانوني قوي داعم للتحرك التشريعي. وأيا كان سبب التأخر، فالوصول المتأخر خير من عدم الوصول نهائيا.
لن تنتهي الحروب البشرية على قوى الشر ما بقيت على الأرض حياة. فنزعة الشر متأصلة في نفوس البشر منذ ابتداء الخليقة. كما أن الأرض لن تخلو من الصالحين الذين يقفون في وجه الباطل والشر. وتثبت الوقائع البشرية إن التقدم العلمي والقانوني والحضاري والحقوقي لأي مجتمع لا يعني بالضرورة صفاءه من الرذيلة والإجرام. بعض البشر وصل به التقدم العلمي والوظيفي مبلغا متقدما، قضاة، وأعضاء مجالس إدارات مصارف وشركات تأمين، ورؤساء تنفيذيون، ومصرفيون ثبت تورطهم في أعمال غسيل أموال وتغطية على تجار مخدرات، حتى مهنة الطب لم تخل من المجرمين والسفلة، وقضايا المتاجرة بأعضاء البشر خير دليل على ذلك.لا يمكن التصدي للشر إلا بقوة القوانين والأنظمة والتشريعات وصرامة تطبيقها وتنفيذها على أرض الواقع. ومهما بلغت صرامة القوانين وتطبيقها على المجرمين والسفلة وعبيد المال، سيظل الشر قائما في نفوس المجرمين، إلا إنه سيكون نائما في صدورهم. وسيظلون يتحينون الفرصة المناسبة للانقضاض. فالحذر واجب، واليقظة مطلوبة دائما، فالشر باق ما بقيت على الأرض حياة.