التنمية الاستهلاكية

مع أنني أكاد أجزم بأن مصطلح تنمية استهلاكية مصطلح غير موجود، لكن أردت أن استخدمه كمدخل لطرح وجهة نظر حول اهمية إعادة النظر في ثقافتنا التنموية الحالية التي تعتمد على ثقافة الاستهلاك، بمعنى أننا لا نعي مفهوم التنمية الإنتاجية التي تنطلق من تحويل كل مشروعاتنا وبرامجنا وطريقة إنفاقنا إلى ثقافة الإنتاج، بمعنى أننا نبدأ بحملة لتغيير ثقافة الاستهلاك التي نعيشها جميعا كأفراد ومؤسسات سواء الحكومية أو القطاع الخاص أو المجتمع المدني لأن كل مشروعاتنا واستثماراتنا تقودنا نحو ثقافة الاستهلاك، ولو قومنا سوق الأسهم مثلا وهو أحد أهم المؤشرات لقراءة قوة الاقتصاد ومحدد لتوجهاته وثقافة الصناعة القائمة عليه لوجدنا أنه يقاد بعدد كبير جدا من الشركات والمؤسسات والبنوك الاستهلاكية فالبنوك تمثل ثقلا في السوق وهي أحد أهم الداعمين لثقافة الاستهلاك ثم تأتي بقية قطاعات السوق، ويمكن استثناء - بتحفظ - شركات البتروكيماوية، وهذا الاستثناء لأن بعض تلك الشركات لا تخلو من ثقافة الصناعة الاستهلاكية.
إن طرح هذا الموضوع في هذا الوقت ومن خلال طرح العديد من المقالات التي تقوم على طرح رؤية تنموية وطنية ذات بعدين إنساني ومكاني ثم التركيز فيها على أهمية حماية الوطن ومكتسباته من رياح التغيير السلبي التي هبت على الكثير من الدول العربية التي تعرضت للكثير من الضعف سواء الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو جميعها ثم فتحت الباب للمطالبة بإسقاط أنظمتها وتركها في مهب الريح كما هو حال العراق أولا ثم بقية الدول العربية ثانيا، وهو هدف يسعى من خلاله إلى تقسيم الدول العربية إلى دويلات ضعيفة غير قادرة على حماية مصالحها ومواطنيها، وهو هدف بعيد المدى للقضاء على الارتباط العربي - الإسلامي ودعم الأحزاب أو المذاهب التي لا تتفق مع المذهب السني الأكثر انتشارا في العالمين العربي والإسلامي.
إن التركيز على هذا التوجه نحو دعم بناء الدولة من الداخل من خلال تعزيز القيم، كما أوضحته في مقال سابق "بناء الدولة بين القيم والمصالح" ومقال اليوم الموضح لخطورة الاستمرار في ثقافة الاستهلاك وعدم دعم الوفرة المالية الحالية بمشروعات قادرة على تحويلها إلى مشروعات اقتصادية توفر فرص العمل واستدامة التنمية وتحقق استقلالا أكبر للاقتصاد السعودي الذي يدعم المواقف والاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني الداخلي والخارجي.
إن استيعابنا للصورة الكاملة والشاملة للمرحلة القادمة التي يجب أن نعمل من أجل تحقيقها وتتواكب مع كل ما يصدر من أنظمة وتوجيهات تعيد الأمور إلى نصابها داخليا وخارجيا وتعكس الصورة الحقيقية عن السياسة السعودية المتزنة والرامية والهادفة إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة وتقضي على الانفلات الفكري والسلوكي الذي صاحب التغيرات التي حدثت وتحدث في عالمنا العربي والإسلامي، خصوصا من أيام القضية الأفغانية حتى يومنا الحاضر، كما أنها تهدف إلى إبراز دور المملكة الداعم للحوار الإنساني بين مختلف شعوب الأرض، وهو برنامج حقق العديد من القفزات الحضارية غير المسبوقة في قرننا الحالي.
إن التفاتنا لداخلنا وإصلاح المنظومة التنموية الإنسانية والمكانية المتكاملة التي تأتي واحدة من أهم مخرجاتها تغيير ثقافة المجتمع من الثقافة الاستهلاكية إلى الثقافة الإنتاجية سواء للسلوك الفردي أو المؤسسي وأن نأخذ من تجارب دول شرق آسيا النموذج المناسب لمثل هذا التوجه، وهو منهج اقتصادي تبنته العديد من دول شرق آسيا بعد الحرب العالمية الثانية مثل الصين واليابان وسنغافورة وكوريا ثم ماليزيا والهند، وهو استثمار نظرت له تلك الدول ضمن منظومة بناء الإنسان والاستثمار في الموارد البشرية والاستفادة من الطاقات البشرية المؤهلة وتوجيهها لتحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة التي تعمل على تقوية الجبهة الداخلية للوطن وتعزز الانتماء الوطني وتؤصل لثقافة التنمية الإنتاجية وتقضي على مفهومي التنمية الرعوية والتنمية الاستهلاكية، وألا يكون حالنا كما يقال إن أحد كبار السن قال لأولاده "قد حدثناكم عن جوع مر بنا، وإني لأخشى أن تحدثوا أبناءكم عن نعمة مرت بكم". أسأل الله أن يديم علينا نعمه ويرزقنا شكرها وحسن استثمارها ويوفق الجهود التي تعمل من أجل وطن سعودي الانتماء، عربي اللسان، وإسلامي المعتقد، وعالمي الطموح. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي