الوضوح .. الدرب الآمن نحو الحقيقة

إن الفيلسوف ديكارت الذي اكتشف أن في ذهنه كمية من الأفكار الخاطئة، من جراء عدم أمانة الحواس وتضليلها لنا وعدم سلامة الموروث المنقول من السابقين (الفكر المدرسي للقرون الوسطى)، قرر معاودة النظر والدخول في عملية شك مشهورة جعلته ينبه عقله إلى ضرورة الغربلة والتنقية والتصفية وعدم الثقة نهائيا، فمن خدع مرة يمكن أن يخدع كل مرة، لكن السؤال كيف يمكن إجراء هذا العمل؟ وما الخطة المسعفة لذلك؟ وما المعيار أو المقياس الممكن اعتماده لتفادي الزلل؟ بعبارة أخرى٬ مما يجب أن أكون متأكدا؟ وما الشيء الذي علي أن أثق به؟ ما المعيار الحاسم الضامن للحقيقة؟ وما الوصفة التي تسمح برسم الحدود ما بين الخطأ والصواب؟ لقد وهب ديكارت حياته كلها وأنفق الجهد اللازم كي يقدم الجواب على هذه الأسئلة٬ فكانت الثمرة هي: قواعده الأربع في المنهج الشهيرة. سنكتفي في هذا المقال بالحديث عن القاعدة الأولى المسماة بقاعدة البداهة وهي أساس القواعد الأخرى كلها.

1 - الرياضيات مكمن الخلاص:
هناك مثال شهير يقدمه ديكارت لتبيان كم أن العقل فيه فوضى عارمة وخلط للأفكار تشوش على الرؤية٬ وتدفع بالضرورة نحو ضرورة التنظيف والغربلة٬ فيقول على أنه قد أصبح مثله مثل رجل يذهب إلى حقل تفاح٬ فقام بجني كل التفاح الموجود٬ فأخذه إلى مكان٬ وجلس بكل الروية الكافية٬ وبدأ بعملية فرز التفاح الصالح عن الطالح٠هذه العملية٬ أي مسح الطاولة والبدء من جديد٬ هي نفسها العملية التي يجب إقامتها تجاه العقل فهو أيضا يحتضن الأفكار السليمة والأفكار الخاطئة ويحتاج إلى عملية ترتيب وإعادة نظر٬ لكن إذا كان الأمر سهلا في التفاح بحيث لا نجد صعوبة في اختيار التفاح الجيد عن الفاسد٬ فالأمر معقد في عالم الأفكار٬ هذا ما حاول ديكارت إيجاد حل له فكيف ذلك؟
لقد بحث ديكارت عن الخلاص لمدة تجاوزت 20 سنة وهو في خلوة هادئة في هولندا وذلك لحل أزمة الإدراك الحسي (الأرض لم تعد ثابتة٬ والشمس تخدعنا يوميا) التي عصفت به وبكل البشرية وجعلت الحقيقة في مهب الريح٬ فلم يجد إلا الرياضيات كمسعف ومنقذ، فهي من ستزوده بمعيار الوضوح والبداهة المشهور، لكن لماذا الاستنجاد بالرياضيات بالضبط؟ إنه لمن المعروف أن ديكارت كان مولعا بالرياضيات ومفتتنا بها وكيف لا وهو ممن يعود لهم الفضل في دمج الجبر بالهندسة؟ لكنه سيعاتب الرياضيين كونهم يظهرون النتيجة ويخفون الطريقة، بينما الطريقة هي الأهم.
إن المثير في الرياضيات عند ديكارت هو قدرتها على التبسيط وهو السر الذي جعلها دائما ناجحة وتحقق إنجازات متينة ومتماسكة، تفرض نفسها على كل حس سليم، فالرياضيات تنطلق من أفكار حدسية واضحة، هي بمثابة مقدمات وأوليات٬ كفكرة أن المثلث له ثلاثة أضلاع والدائرة دون أضلاع والكل أكبر من الجزء ... فكلها أفكار بدهية٬ تفقأ العين بوضوحها٬ ومن ثم فهي بحسبه تكتسي طابع الحقيقة٬ ما دامت أنها استوفت شرط الوضوح الذي يبعد كل شك٬ ومن هذا الوضوح نستنتج عن طريق الاستدلال الهادئ والصارم نتائج جديدة تكون بدورها واضحة، فمن الوضوح نحو وضوح آخر، هذا هو سر الدرب الآمن في الرياضيات حسب ديكارت، بهذا يكون ديكارت قد وجد الخلاص ووجد المعيار الذي سيعتمده لتنظيف العقل، فالفكرة في ذهني حقيقة إذا تحقق شرط البداهة والبساطة وإلا نعلق الحكم ونجتهد لجعل المعقد بسيطا والغامض واضحا٠

#2#

2 - البداهة: الخطوة الأولى الأساس في درب الحقيقة٠
نصل مع ديكارت إلى الفكرة التالية: ما دامت الرياضيات مجمعا عليها ومتفقا حولها نظرا لوضوح وبداهة منطلقاتها فالحل إذن يكمن في تقليد الرياضيات في باقي القضايا الأخرى وذلك بتدريب عقلنا على ألا يقبل إلا الواضح كحقيقة ويعلق الأحكام فيما هو غامض إلى أجل غير مسمى٠ لهذا سيبدأ ديكارت مشروعه المنهجي بالقاعدة التالية: "يجب ألا أقبل شيئا قط على أنه حق ما لم يتبين لي بالبداهة العقلية أنه كذلك، ويجب ألا أحكم على الأشياء إلا بما يتمثله الذهن بوضوح وتمييز ينتفي معهما كل سبيل إلى الشك". هذه القاعدة توضح أن معيار الحقيقة عند ديكارت يكمن في البداهة والوضوح، فما دامت الفكرة غامضة فلا يمكن إصدار الحكم بصوابها، حتى يتم التقصي والضبط وأخذ الوقت الكافي لجعلها واضحة وإلا على الأقل تعليق الحكم احتراما له٬ وبهذا فأي مشكلة ملغزة تواجهنا في الحياة ويختلط علينا أمرها، تكون أول خطوة منهجية للتعامل معها هو ألا نسرع في إصدار أحكام طائشة تجعلنا لا نسيطر عليها. وفي هذا الأمر يقول ديكارت "ساخرا" من المتسرعين: "ٳنه كثيرا ما يحدث أن ينهمك البعض بسرعة في البحث في المشكلات، بحيث يباشرون البحث بأفكار متسرعة، دون أن يتساءلوا عن العلامات التي يمكن لهم من خلالها أن يتعرفوا على الشيء الذي يبحثون عنه إذا ما حصل أن اعترضهم صدفة. وهم في ذلك يشبهون في غباوتهم خادما أرسله سيده إلى مكان ما، فسارع إلى طاعته، بحيث انطلق يهرول دون أن يتلقى بقية الأوامر، ودون أن يعرف حتى المكان الذي طلب منه الذهاب إليه..."
كما يقول في كتابه المبادئ: "المعرفة الواضحة، هي الحاضرة أمام الفكر المنتبه، البينة له ...والمعرفة المتميزة هي التي تكون على جانب من الدقة والاختلاف عن كل المعارف الأخرى، بحيث لا تحتوي في ذاتها إلا على ما يظهر بانكشاف لمن يتفحصها كما ينبغي."
إن هذا المعيار (الوضوح) هو من سيجعل ديكارت يؤكد على أن مبدأ الكوجيتو "أنا أشك أنا أفكر، إذن أنا موجود" حقيقة ثابتة٬ فهي فكرة عنده قد بلغت من الوضوح مبلغا يزول معها كل شك فهي حدس عقلي خاطف، فعندما أشك في كل شيء يبقى شيء واحد صامدا وبعيد عن الشك٬ هو الشك نفسه، والشك فكر، فأنا إذن موجود به لا بالجسد.
إن مسألة الوضوح كمعيار للحقيقة التي بدأت في القرن السابع عشر مع ديكارت سترهن الأزمنة الحديثة كلها٬ وما فكرة الشفافية في الشؤون الاقتصادية والسياسية إلا تجل من تجليات هذا البعد المنهجي الذي أصبح فرشة نظرية خفية توجه الرؤية٠
إذن نخلص من هذه الخطوة المنهجية الأولى أن الباحث عن درب الحقيقة يجب أن يأخذ على عاتقه مسؤولية لجم عقله ومحاكمته وبكل الصبر اللازم على ألا يقبل إلا الواضح من الأفكار٬ لكن كيف السبيل إلى هذا التوضيح٬ إن القواعد المتبقية هي التي ستجيب عن ذلك٠

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي