هل السرية المصرفية في سويسرا تنتهك سيادة الدول؟
المتتبع لسير التحقيق الذي أجراه السيناتور الأمريكي كارل ليفن (رئيس لجنة التحقيق المنبثقة عن مجلس الشيوخ الأمريكي)، مع الرئيس التنفيذي لمصرف كريدي سويس برادي دوجن يلحظ أن دفاع الرئيس التنفيذي للمصرف السويسري تمحور حول نقطتين: الأولى أن إدارة المصرف العليا لم تكن على علم بالممارسات التي تعتبر انتهاكا للقوانين الأمريكية، والثانية تتمحور حول التزامه بالسرية المصرفية التي تنص عليها القوانين السويسرية (القائمة). دوجان (أمريكي الجنسية) أكد أن كل المصرفيين الذين مارسوا المخالفات (الإجرامية) لم يعودوا موظفين في البنك، كما أبدى صعوبة موقفه في التوفيق بين السرية المصرفية وفق القوانين السويسرية من ناحية ووجوب الإفصاح عن الأرصدة كما تتطلبها القوانين الأمريكية (لأغراض ضريبية) من ناحية أخرى. رد السيناتور كارل أتى شديد اللهجة، وتمحور حول نقطتين: الأولى أن قوانين السرية المصرفية السويسرية لا تعني بأي حال من الأحوال تقديم استشارات في كيفية الاحتيال على الحكومة الأمريكية بغرض التهرب من الضرائب. والثانية أن للولايات المتحدة الأمريكية قوانينها الخاصة، وعلى من يريد التعامل معها احترامها.
وعودة إلى السؤال أعلاه، فالجواب نعم، قوانين السرية المصرفية في سويسرا تستهدف أمن وسيادة الدول في الصميم، (وهذا رأيي الشخصي). فإخفاء الأموال عن الحكومات لا يضر الدول ماديا فقط كنتيجة مباشرة لعدم دفع الضرائب المستحقة، بل يتعدى ذلك لكونه يقطع أي طريق لمعرفة مصادر تلك الأموال. قوانين السرية المصرفية السويسرية وعلى مدى مئات السنين استقطبت أموالا منهوبة من دول العالم الثالث، كما استغلت من عصابات دولية تتاجر بالعفونات والقذارات التي تدمر القيم الإنسانية. حتى الإرهابيون استغلوا مصارف سويسرا لإخفاء أموالهم القذرة التي جمعت بطرق حقيرة لتصرف على قتل البشر، ولكن الحقيقة أن الضغط الدولي على سويسرا في ازدياد مطرد، وخصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية التي أربكت مبالغ المخالفات التي فرضتها ملاءة رأسمال المصارف المخالفة. والكلام هنا ليس عن مصارف اعتيادية، بل مصارف ضخمة ذات وجود دولي.
وهذا الضغط الدولي على سويسرا (وهو محمود بطبيعة الحال)، ولد مشروعا حكوميا للأموال البيضاء. وباختصار شديد؛ فإن هذا القانون يمنع فتح أي حساب قبل الإعلان والإفصاح لمصلحة الضرائب لدولة المودع، إلا أن الغريب جدا بهذا الخصوص أن هذا المشروع لا يسري بأثر رجعي؛ بمعنى أن أصحاب الودائع المصرفية السابقة (قبل تقديم هذه الاستراتيجية) غير ملزمين بالإفصاح لمصلحة الضرائب في دولهم. بمعنى آخر، ما فات مات، ولا مجال لفتح الملفات السابقة.
لم يعد بالإمكان أن تتبنى أي دولة استراتيجية مالية من شأنها إلحاق الضرر الأمني والاقتصادي بالمجتمع الدولي. فلا يمكن للمجتمع الدولي أن يقبل بقوانين وأنظمة من شأنها أن تستغل من عصابات نهب الدول وجشعين يتهربون من دفع ما عليهم من حقوق وغيرهم الكثير. بدأ الخناق يضيق على السرية المصرفية السويسرية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (لا أعادها الله)، وعلى الرغم من مقاومة المصارف السويسرية، إلا أن الأحداث تسير لصالح المجتمع الدولي كله بما يمنع تضارب مثل هذه القوانين الأنانية الغريبة على مصالح المجتمع الدولي. لم يكن من أهداف الصناعة المصرفية في أي يوم من الأيام أن تكون أداة للتهرب الضريبي، أو التغطية على الإجرام والإرهاب. وتتابع الأحداث يدل يوما بعد آخر أن المصارف ستعيش مستقبلا أكثر نقاوة واستقرارا. وهذا ما نتمناه جميعا.