التحليل والتركيب .. ومواجهة لغز العالم

منذ بزوغ العلم الحديث في القرن السابع عشر، توجه العلماء بتواضع كبير، إلى النظر في "تكوين العالم" وليس إلى"خلق العالم" فالخلق من اختصاص الله عز وجل، أما البشر وبعقلهم المحدود، فلا قدرة لهم إلا النظر في مكونات وأجزاء العالم، فالعاِلم البيولوجي مثلا وهو يفحص البنكرياس لا يسأل سؤال من خلق هذا البنكرياس، فهذا أمر محسوم والجواب الديني عنه فيه الغنية، بينما العالِم يبذل جهده للحفر في مكونات البنكرياس فيكتشف مثلا أنه معمل لصناعة هرمون الأنسولين. وما دام النظر في مكونات هذا العالم، ليس بالأمر اليسير وخاصة أن النظرة الأولى لا تقدم إلا الخطأ (تبدو الأرض ثابتة بينما العكس هو الصحيح، تبدو الورقة البيضاء بيضاء في حين أنها تتشكل من سبعة ألوان...وهكذا كما اكتشفنا في المقالات السابقة فالحواس ليست أداة معرفة قط)، إذن فالعالم ليس واضحا أو بسيطا، كما قد نعتقد للوهلة الأولى، بل هو ملغز وغامض وشديد التعقيد.

إن العلماء بدءا من القرن السابع عشر تنبهوا إلى أنه لا إمكانية توجد لسبر أغوار العالم إلا بالمنهج، وقلنا فيما سلف من المقالات، إن ملامح هذا المنهج قد توضحت مع الفيلسوف ديكارت الذي وجد أن معيار الحقيقة هو الوضوح.

لكن بقي السؤال عالقا كيف السبيل إلى الوضوح؟ وما الطريقة الأقل كلفة التي يقدر عليها عقلنا وتتلاءم وقدراتنا نحن البشر؟ الجواب يكمن في التعامل مع العالم كآلة ميكانيكية انطلاقا من قاعدتي التحليل والتركيب فكيف ذلك؟

=من منا لم يسمع هذه العبارة التالية "لقد استطاع العلماء تفكيك الشفرة الوراثية". إنها عبارة تدل على أن العلماء قد واجهوا معضلة غامضة فاتضحت فيما بعد عن طريق التفكيك، إذن التفكيك أداة منهجية مسعفة ومساعدة، وإذا ما كنا نود البحث عن جذور هذه الآلية، فإننا سنجد أن ديكارت هو من كان له الفضل الكبير في إرساء التحليل كعدة منهجية توجه لهتك سر الطبيعة، فلنوضح ذلك إذن.

#2#

قاعدة التحليل

كي نتمكن من القبض على المشكلة قيد الدراسة ومواجهتها وتبديد غموضها، وجب ــ حسب ديكارت تحليلها وتفكيكها إلى أجزائها الواضحة.

تعد هذه المرحلة بمثابة المهارة الوحيدة المتاحة لنا كبشر لفهم المعقد وفك شفرة الألغاز. فالإنسان غير قادر على إدراك الأمور دفعة واحدة (فهو ليس إلها)، فليس له من خيار ما عدا هذه العملية التقسيمية إلى الوحدات الواضحة.

ويمكن أخذ أمثلة عديدة تطبيقية تثبت قوة هذا المنهج وصحته وكونيته. إن محرك سيارة وهو يشتغل دفعة واحدة، يكون صعب التناول، لكن إذا قمنا بتحليله إلى أجزاء واضحة، سنتمكن من إزالة غموضه ومن ثم فهمه وهو السبيل للتحكم فيه.

وكذلك نجد مفهوم القوة فيزيائيا غامضا إلا إذا فككناه إلى وحداته الواضحة وهي الكتلة والتسارع، الأمر نفسه يقال عن السرعة، فما هي إلا مسافة وزمن، والطاقة هي كتلة وسرعة ضوء كما شرح ذلك إينشتاين، أما إذا قمنا بتفكيك الصوت فسنجده موجات بأطوال معينة.

وباتجاهنا صوب الجسم البشري فإنه يصعب فهمه في كليته، ولا حل لدينا ما عدا تقسيمه إلى مجموعة أجهزة (جهاز عصبي، عضلي، هضمي، تنفسي ...)، ولنتأمل كم في كلمة جهاز من نزعة آلية، هذه الأجهزة هي أيضا تحلل إلى أجزاء أصغر، ونحن نعلم الآن أن العلماء قد فككوا الشفرة الوراثية وبلغوا قواعدها الأساس، المشكلة لهوية الفرد البيولوجية. فلولا آلية التحليل لما استطاع الإنسان فهم واستيعاب ألغاز ما حوله.

إن هذا هو المقصود بالنزعة الميكانيكية عند ديكارت التي طبعت العلم الحديث. إلى درجة أن العالم كله أصبح منظورا إليه باعتباره آلة كبرى وهو ما أتاح فرصة إدراكه، فيكفي لفهمه أن نقوم بتحليله إلى قطاعات وورش عمل نقدر عليها، وهو الأمر الذي يبرر ظهور التخصصات في كل قطاعات الحياة. فالفيزيائيون تكفلوا بدراسة المادة، لكن المادة معقدة بدورها، وهو ما جعل المهام تقسم إلى وحدات صغرى، بحيث نجد الآن تخصصات داخل الفيزياء نفسها (دراسة المغناطيس، الحركة الكهرباء، سقوط الأجسام، الحرارة...). أما البيولوجيون فتكفلوا بدراسة الكائنات الحية، ومجال الأحياء بحر واسع يتطلب بدوره تحليلا أعمق (حيوانات، حشرات، إنسان، نباتات...).

هكذا تناسلت التخصصات تلو التخصصات إلى أن ظهر آخر تخصص هو العلوم الإنسانية التي أخذت على عاتقها دراسة الكائن اللغز، الكائن المنفلت: إنه الإنسان في جوانبه الروحية. فهو بدوره لم ينج من آلية التحليل فتم تفتيته إلى: نفس واجتماع وإنثربولوجيا وتاريخ وجغرافيا وسياسة واقتصاد.

كل هذا يظهر أصالة ديكارت وتأثيره على اللاحقين خاصة في مجال العلوم. فلا فهم ولا دراسة ولا إدراك إلا بالتحليل، فهو وسيلتنا الوحيدة ما دام كما قلنا إننا عاجزون عن إدراك الكون دفعة واحدة، فذاك أمر يتجاوزنا. إن ديكارت علمنا التواضع، علمنا ألا ندعي الحقيقة الجاهزة، فهي "إلهية"، أما نحن فعملنا عمل النملة، عمل المختبرات، عمل الزمن الطويل، عمل المشعل المنقول جيلا بعد جيل.

إن خطوة التحليل خطوة محض منهجية، يقوم بها الإنسان عنوة، ويفرضها فرضا على المشكلات والمعضلات التي تجابهه، كي تفشي سرها وتعطي شفرتها. فهي عملية مصطنعة ومفتعلة غرضها تبديد الغموض وإن كانت تشوه الحقيقة لأنها تقدمها ممزقة الأوصال، علما بأن الأصل في الحقيقة هو كونها لوحة كاملة تشتغل موحدة، الجزء فيها متصل بالآخر دونما بتر. بكلمة واحدة التحليل يفقد الحقيقة جماليتها مما يستدعي الخطوة الموالية باعتبارها ترميما ولم شمل الأجزاء من جديد في توليفة متناغمة يدعي الإنسان أنها الحقيقة ولو مؤقتا.

قاعدة التركيب

وهي عكس المرحلة السابقة، أي جمع شتات ما تم تحليله ولم شمل التفاصيل وتوحيدها كي تكتمل الصورة، أي العودة من البسيط إلى المركب. فهذه المرحلة توليفية، تنسيقية، تحافظ على تناغم وانسجام الكل.

هذه المرحلة تعلمنا كيف ومم يتكون الشيء الغامض الذي نحن بصدد دراسته، وهي خطوة لا تنفصل نهائيا عن التحليل فهما معا يكملان بعضهما بعضا.

ولفهم المسألة نستحضر فيلسوفا آخر من القرن السابع عشر وهو من المتشبعين بالنزعة الميكانيكية القائمة على التحليل والتركيب حتى النخاع، إنه مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة "توماس هوبز" صاحب الكتاب المشهور "التنين" فهو كان يحلو له أن يوضح منهجه باستخدام مثال الساعة وذلك كالتالي: إنه عندما نريد فهم كيف تعمل الساعة (لنعتبرها هنا هي المعضلة العالقة بين أيدينا) نقوم بتفكيكها وندرس مكوناتها المختلفة وخواص هذه المكونات، ثم نجمع أجزاء الساعة، وبجمعنا الأجزاء بشكل يعيد الساعة إلى العمل من جديد، نتعلم كيف ترتبط الأجزاء ببعضها وكيف تعمل الساعة٬ ونفهم ما هي الساعة.

ولقد حاول تطبيق هذا المنهج التحليلي والتركيبي على المجتمع بحيث سيعمل على تقسيمه إلى أجزائه الواضحة، وجزؤه الجوهري كما توصل إلى ذلك، هو الفرد بأهوائه وأنانيته ثم إعادة جمع هذه الأجزاء، بحيث نرى روابطها وكيفية عملها، وبفعلنا ذاك نفهم ما هو المجتمع. مع التذكير بأن هذا التقسيم ليس دائما قسمة واقعية بل خياليا افتراضيا أحيانا.

قاعدة الإحصاء والمراجعة

وهي مرحلة يؤكد عليها ديكارت حيث نقوم بها قصد التأكد من صحة التحليل والتركيب، وضمان التسلسل السليم للخطوات، وأن الواحدة تشد برقاب الأخرى، بحيث يكون الانتقال من حلقة لأخرى مبررا.

هذه الخطوة الأخيرة تثبت مدى تريث ديكارت وحرصه على تقليب الأمور على وجوهها المتعددة وكيف لا وهو من يشبه نفسه بالرجل الذي يسير وحده في الظلمات، فقرر أن يسير الهوينى ويتخذ الحذر اللازم، فإن لم يصل إلى مبتغاه على الأقل يضمن عدم السقوط.

فديكارت ينبه إلى أنه يمكن أن نفكك ونركب إلى أقصى الحدود ونعلن أننا بلغنا الوضوح، أي الحقيقة بحسبه، لكن بالرغم من ذلك يجب معاودة النظر دوما، فلربما وقعنا في مزالق، فالشك يجب أن يسري في عملية البحث دونما توقف، وملفات البحث لا ينبغي أن تغلق أبدا، فدائما هناك إمكانية الجديد والمفاجئ.

نخلص إلى أن الحقيقة ليست جاهزة، تقدم لك نفسها على طبق من ذهب، بل هي بحث مضن ومتعب يتطلب منك الجهد الجهيد. وهو ما يبدو واضحا عند العلماء، فهم يكابدون معاناة اكتشاف خبايا العالم في المختبرات لسنوات وعقود طويلة علهم يحصلون على قبس صغير من نور الحقيقة. وهيهات ذلك.

*أستاذ مادة الفلسفة ــ المغرب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي