التعامل مع التراث عند عابد الجابري

تعد سنة 1980 م مهمة بالنسبة للمرحوم عابد الجابري (1936/2010م)، فهي تكتسي دلالة خاصة تهم مساره الثقافي، وتجسد له سنة صدور كتابه "نحن والتراث" الذي يعده هو نفسه الكتاب الحاسم في التعريف به خاصة في المشرق، كما أنها سنة صادفت أول حوار له مع مجلة الإذاعة والتلفزة التونسية.

إن عابد الجابري كان مدفوعا لإعادة قراءة التراث على أسس منهجية مخالفة لما كان سائدا آنذاك نظرا لمجموعة من العوامل.يحكي هو بعضها في حفرياته التي نشرت عبر سلسلة طويلة سماها مواقف في بداية القرن الحادي والعشرين، فمثلا في (مواقف / العدد / 15 / 2013)

#2#

يروي لنا قصة طريفة وقعت له مع طلبته حينما تحلقوا به عند نهاية إحدى محاضراته، فبادر طالب بسؤال يقول عنه عابد الجابري أنه أيقظه من سباته وهو "كيف نقرا التراث أستاذ؟" فلم يرد الجابري عليه لكن استوعب أن الجواب ليس أمرا هينا ويمكن أن يتم بكلمة واحدة بل الأمر هو مهمة شاقة تحتاج إلى مشروع.

إن سؤال الطالب "كيف نقرأ التراث؟" كان إذن الشرارة الأولى نحو الانطلاق من القراءة الأيديولوجية نحو القراءة الأبستمولوجية (القراءة التي تبحث في النظم المعرفية الموجهة للتفكير). علما بأن القراءة الأيديولوجية كانت بضاعة رائجة آنذاك خاصة المشاريع الفكرية التي كانت تستورد المنهج الماركسي مطبقا كمحاولة طيب تيزيني ومحاولة المرحوم حسين مروة ... التي كان لها صداها في الأوساط اليسارية العربية.

من تدريس الأبستمولوجيا إلى استثمارها في قراءة التراث

إن القراءة المسماة أبستمولوجية عند عابد الجابري لم تكن بمحض الصدفة، بل الرجل كان منخرطا في الانتاجات الغربية خاصة الفرنسية منها إبان الستينيات من القرن العشرين، أي بعد بداية أفول نجم الفيلسوف سارتر ووجوديته وذيوع أفكار غاستون باشلار والتو سير وقراءته لماركس وميشل فوكو وكتابه " الكلمات والأشياء". هذا الأخير الذي كان له أثر واضح في كتابات الجابري. إضافة إلى كل ذلك، فالمرحوم عابد الجابري من الأوائل الذين تطوعوا وبمبادرة شخصية لتدريس مادة الأبستمولوجيا التي تم تتويجها بكتاب في ذلك سنة 1976 بعنوان "مدخل إلى فلسفة العلوم" وكان عمله هذا انطلاقة لجيل جديد سيطور هذا المبحث في الجامعة المغربية أمثال: محمد وقيدي والمرحوم سالم يفوت الذي غادرنا أخيرا في صمت.

إن الدرس الأبستمولوجي وتعامل الجابري مع الطلاب وحضوره لبعض صراعاتهم، جعلته يستوعب أن تفسير الاختلاف في الآراء والنظريات في الفكر العربي ليس يعود إلى تناقض المصالح الطبقية الاجتماعية، أو لأن البعض "قدماء" والآخرين "محدثين" بل هو يعود إلى الجانب المعرفي أيضا فهو له دوره في تأجيج الخلاف.

وهنا سيحكي لنا الراحل الجابري حدثا آخر من خزان ذكرياته التي لا بأس من ذكره فيقول: "عقدت ندوة بكلية الآداب بالرباط لا أذكر موضوعها بالضبط، ولكني أﺫكر جيدا أنها شهدت نقاشا صاخبا بين الطلبة: فريق يصدر عن موقف "إسلامي" وفريق يتكلم لغة ماركسية، فتساءلت في نفسي: ما الذي يقف وراء هذا الصراع الأيديولوجي في نفوس هؤلاء الطلبة، أعني هل ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة؟ وعندما أخذت أتأمل سحنات هؤلاء الطلبة وهندامهم ولهجاتهم تبين لي أنهم، ينتمون جميعا إلى شريحة اجتماعية واحدة، وأنهم جميعا من أصول قروية، فقلت في نفسي ما الذي يفرق بين هؤلاء حتى يتبنى فريق منهم الطرح الإسلامي أو الإسلاموي، ويصدر الفريق الآخر عن أيديولوجيا ماركسية أو ماركسيوية؟ وعندما أخذت أنتبه لمفردات خطابهم اتضح لي أن السبب الكامن وراء اختلافهم هو تباين المرجعية الثقافية لديهم . فريق مرجعيته عربية إسلامية محض أو تكاد، وفريق مرجعيته أوروبية فرنسية بكيفية خاصة. ومنذ ذلك الوقت أخذت أعطي للجانب الأبستمولوجي دورا لم أكن لأهتم به من قبل".

من نقد القراءات الأيديولوجية إلى اقتراح منهج بديل

قبل أن يقترح المرحوم عابد الجابري نقلته المنهجية في قراءته للتراث، سيعرض بداية للقراءات السائدة في وقته التي نقدمها بشكل مختصر كالآتي:

1 -القراءة السلفية: وهي قراءة لها هاجس تأكيد الذات واستعادة المجد الحضاري وذلك بالنكوص إلى مواقع خلفية للاحتماء والدفاع من جراء التحدي الحضاري الغربي بجميع أشكاله وأبعاده كافة، فأصبح المستقبل يقرأ بواسطة الماضي لكن ليس الماضي الذي كان فعلا بل الماضي كما ينبغي أن يكون؛ فالسلفي الديني غرق في الماضي بكل جوارحه إلى درجة انخراطه في الصراع الأيديولوجي الذي كان في الماضي تأييدا ورفضا ومحاولة إسقاط ذلك في الحاضر والمستقبل. عموما يسم عابد الجابري هذه القراءة السلفية للتراث بأنها لا تاريخية. لأنها تنتج فهما واحدا وبعبارته: الفهم التراثي للتراث.

2 - القراءة الاستشراقية: هي قراءة ليبرالية تسأل عن: ما السبيل لنعيش عصرنا؟ وهي ذات نزعة أوروبية تريد قراءة الماضي انطلاقا من الحاضر، لكن الحاضر الغربي المتفوق الذي يفرض نفسه كنموذج، إنها القراءة الاستشراقية التي تحاول أن تقدم نفسها كقراءة علمية تتوخى الموضوعية وتلتزم الحياد وتنفي عن نفسها الأغراض والأيديولوجية، وتدعي أن ما يهمها هو فقط الفهم والمعرفة بمعنى أنها تأخذ من المستشرقين المنهج وتترك أيديولوجيتهم. مهملة أن الرؤية والمنهج لا يمكن الفصل بينهما، فإذا كانت القراءة السلفية تؤدي إلى التقوقع، فإن القراءة الاستشراقية تؤدي إلى الاستلاب، ويضرب عابد الجابري لذلك مثلا: بالمنهج الفيلولوجي المتبع من طرف المستشرقين، فهو منهج يجتهد في رد كل شيء لأصله، وحينما يكون المقروء هو التراث العربي الإسلامي فإن مهمة القراءة تنحصر في رده إلى أصوله: اليهودية أو المسيحية أو الفارسية أو اليونانية أو الهندية... وفي نهاية المطاف للتدليل على فكرة مسبقة مفادها أن العرب ما هم إلا قنطرة أوصلت للحداثة وما على العرب في الحاضر إلا الأخذ من الأوروبيين إن أرادوا الخروج من مآزقهم. وهذا ما هو إلا تمركز أوروبي.

3 - القراءة اليسارية "الماركسية": هي قراءة تتبنى الرؤية الماركسية، لا لتسترشد بها كمنهج بل تأخذ الماركسية في أغلب الأحيان كمقولات وقوالب جاهزة جامدة، فهي تقرأ التراث بمنهج مطبق ولا تطبق هي المنهج وهو ما يجعلها قراءة تلوي عنق التاريخ .
يخلص المرحوم عابد الجابري إلى أن الفكر العربي طبعته نزعة سلفية في القراءات الثلاث، فلكلّ سلفه سواء كان هذا السلف في الماضي العربي الإسلامي أو عند المستشرقين أو عند الماركسية.

القراءة المقترحة من طرف الجابري

يرى عابد الجابري، أنه ولتحقيق قراءة فيها الحد الأدنى من الموضوعية في دراسة التراث لا بد من تتبع ثلاث خطوات مهمة وهي:

1 - المعالجة البنيوية: أي دراسة التراث انطلاقا من النصوص كما هي معطاة لنا. أي ضرورة وضع جميع أنواع الفهم السابقة لقضايا التراث بين قوسين.

2 - التحليل التاريخي: ربط فكر صاحب النص الذي أعيد تنظيمه حين المعالجة البنيوية بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية.

3 - الطرح الأيديولوجي: كشف الوظيفة الأيديولوجية التي أداها الفكر المعني.

نختتم مقالنا هذا بالقول: إن السؤال الكبير الذي كان المرحوم يريد الإجابة عنه هو: كيف نتعامل مع تراثنا بموضوعية ومعقولية؟

الموضوعية: بجعل التراث معاصرا لزمنه، وذلك بفصله عنا أي بمعالجته في محيطه الخاص، المعرفي والاجتماعي والتاريخي.

المعقولية: بجعل التراث معاصرا لنا، أي وصله بنا. بواسطة عقلانية تنتمي إلى عصرنا.
بهاتين العمليتين معا أي الفصل والوصل يمكن، حسب الجابري، جعل التراث موضوعا لنا وليس فينا. بعبارة أخرى سنتحرر من سلطته علينا ونمارس نحن سلطتنا عليه.

* أستاذ مادة الفلسفة ـــ المغرب

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي