المظاهر خداعة
كان في قديم الزمن راعٍ للغنم يدعى جيجس، يشتغل لدى ملك، وكان رجلا يضرب به المثل في الأخلاق، فهو نبيل وجواد، شهم وصادق، يقدم يد العون لكل الناس... حتى اعتبره الناس أطيب خلق الله، إلا أن طارئا حدث سيغير كل شيء، فبينما هو يرعى غنم الملك في الجبل وجد خاتما فوضعه في يده، حركه يمنة فاختفى، وحركه يسرة فظهر، فالخاتم كان سحريا ومكنه من السلطان والقوة، فأصبح جيجس غير جيجس، لقد قتل الملك وتزوج زوجته وبطش بالناس، لقد خدع الناس في جيجس.
لقد استحضرت هذه الحكاية الأسطورية اليونانية الشهيرة التي ذكرها أفلاطون في جمهوريته، كي نضع يدنا على أحد أهم إشكاليات فلسفة الأخلاق، وهي هل المظهر الخارجي يسمح بالحكم على أخلاقية المرء؟ هل ما يبديه الإنسان لنا من تصرفات نراها تسري أمام أعيننا كاف لوضعها في خانة الخير؟
إن قصة الراعي جيجس في هذه الحكاية المذكورة توضح لنا أن الحقيقة الأخلاقية لا يمكن تحديدها من مجرد المظهر أو السلوك الخارجي، ونيات جيجس الحقيقية لم تنكشف إلا عندما أوتي السلطان، فالأخلاق لا تظهر بيسر وليست سهلة التجلي، فهي تتطلب وضع المرء في امتحان عسير قلما يخرج منه منتصرا، فطوية الإنسان غائرة ولن تنجلي إلا في المواقف الحرجة. فالعبرة إذن كما يبدو ليست بالسلوك الظاهر، بل بالنية المحركة لهذا السلوك. سنعالج هذه الإشكالية انطلاقا من موقف أحد أهم الفلاسفة في المبحث الأخلاقي وهو الحكيم العالمي إيمانويل كانط (1804/1724)، الذي تحدث عن الأخلاق باسم العقل.
بداية عندما نتحدث عن الأخلاق فإننا نستحضر مسألة الخير والشر، فما من إنسان يسلك في الحياة إلا ويصنف أعماله أو أعمال الغير في خانة الفضيلة أو الرذيلة، وفق مثل أعلى يرتضيه يكون بمثابة المعيار المعتمد من طرفه لتحديد خيرية الفعل أو شرانيته. فلا بد للمرء من حدود فاصلة ما بين الأخلاقي واللا أخلاقي، إذن المشكلة الأخلاقية مرتبطة بالسبل الواجب اتباعها لسلوك الخير، وهو الأمر الشائك والمستعصي، فليس هناك إجماع كوني حول الخطوط الواضحة التي يتحدد معها الخير عن الشر، فقد تكون باسم الدين وهنا يطرح السؤال: أي دين؟ ما دام أن هناك أديانا مختلفة.
#2#
أو قد يعتمد المرء مقياس العرف والتقاليد وهو أمر متضارب حوله، وقد تكون الحدود عند البعض الآخر باسم المنفعة أو المصلحة، كما يمكن أن تكون باسم اللذة والألم... إن هذه المقاييس كلها يراها كانط غير منضبطة ولا تسمح بتكوين مدونة أخلاقية عالمية، لذلك يسميها بقواعد للسلوك العملي وهي غير كافية عنده لبلورة قانون وأمر أخلاقي يتسم بالضرورة والإلزام، الذي لا يمكن أن يتأتى بحسبه إلا بالعودة إلى حدود يفرضها العقل، فهو المحكمة والفيصل بين الخير والشر وهو المعيار الوحيد الذي سيسمح بالكونية والاتفاق، فطريق كانط هو طريق ديكارت القائل إن "العقل هو أعدل قسمة بين الناس" فهو المشترك المعول عليه لتوحيد قرارات البشرية. والفيصل الأجدر في لم شمل النظرة الأخلاقية عند الناس، بصرف النظر عن طبقاتهم ودياناتهم وثقافاتهم... ولكي يتمكن كانط من إجراء عملية غربلة وتصفية للمقاييس الأخلاقية المحددة للخير بدأ أولا بالهجوم على المقاييس المستندة على التجربة والخبرة الحسية. فكيف ﺫلك؟
التجربة الحسية لا يمكن أن تكون معيارا للأخلاق.
لقد كانت لكانط إرادة ملحة على ضرورة تجاوز التجربة نحو العقل، فالتجربة بحسبه غير صالحة كمعيار ومقياس للحكم على الأخلاق وخيرية السلوك، وأنه من اللازم البحث عن أساس للأخلاق في الذات وليس خارج الذات، وبالضبط في العقل الخالص الخلو من كل شوائب المادة. ويمكن فهم هذا التصور السلبي من التجربة لدى كانط لسببين اثنين هما:
أ ــ نسبية وخصوصية التجربة:
يسلك الناس غالبا في الحياة انطلاقا من النتائج المترتبة عن أفعالهم، فيعتبرون خيرا كل ما فيه لذة وشرا كل ما فيه ألم، كما أنهم يجعلون في أحيان أخرى المصلحة والمنفعة هي معيار كل أخلاق. وهنا تكمن المشكلة حسب كانط، فمسألة اللذة والألم مسألة شخصية ولا يمكن ضبطها أو حسابها ودرجتها تختلف من شخص لآخر، بل تختلف لدى الشخص الواحد بحسب ظروفه ولحظات حياته، وهو ما لا يرقى إلى إعطاء مقياس واحد ثابت واضح للجميع. فالاعتماد على التجربة، أي على كل ما يمت بصلة إلى الرغبات والميولات والملذات والآلام والمصالح والمنافع المادية، يجعل قيمنا تتضارب وتتناقض لأننا لسنا قادرين على تدقيقها، فبمقدور كل شخص أن يتجه بشعوره إلى ما يرغب فيه، أي نحو غايته وغرضه الخاص، كما أن عواطفه وميولاته تختلف عن الغير وهو الأمر الذي يجعلها أمور مفتقرة للصلاحية الشاملة والكونية اللازمة. إن التجربة الحسية ترتبط بما هو عرضي ومتغير، لهذا فهي غير صالحة كأساس لبناء صرح الأخلاق. من هنا نفهم هاجس كانط في البحث عن معيار ومقياس عقلي صرف، فالمعايير التجريبية عنده فوضوية وفاسدة ومزاجية ونسبية ومفتقرة إلى الموضوعية. فكانط يبحث عن أخلاق نقية وصافية غير مشوبة بشوائب الطبيعة الإنسانية أو تأثيرات الظروف المحيطة بالإنسان، كما أنه يريد عوض قواعد للسلوك، قانونا للأخلاق يتسم بالضرورة والإلزام، أي الكونية.
إن طموح كانط هو تشريع أخلاق عالمية، لذلك فهو يقوم باستبعاد كل ما من شأنه أن يعرقل ذلك الطموح والنزوع نحو ما هو كوني والبحث عن مبادئ ثابتة خارج إطار الزمان والمكان، بحيث تصح لكل الكائنات الإنسانية وهو ما لم يجده في التجربة لأن كل "المبادئ العملية المادية هي من نوع واحد تندرج تحت المبدأ العام، حب الذات أو السعادة الشخصية" وهي متغيرة وشخصية، ولكن سيجده في العقل مكمن الضرورة والشمول والقانون الذي يحمي من التضارب والتناقض ويفضي إلى التقارب والاتفاق.
ب ــ خداع التجربة.
إننا غالبا ما نحكم على سلوكات الناس ونصنفها في خانة الخير أو الشر في ضوء ما ينجزون أمام أعيننا من أعمال أو ما نراه منهم من سلوكيات. ولكن في كثير من الحالات نخدع عندما نجد أن المرء قصد بسلوكه الشر عوض الخير وقد أظهر ما لم يضمر، فنقول إننا قد تسرعنا في الحكم. هذا الأمر يؤكد أن التجربة ليست صالحة كمقياس للحكم الأخلاقي، فالخداع والتزييف والتضليل ممكن جدا في كل خبرة حسية وهو ما جعل كانط يلفظها لفظا قاطعا ويبعدها عن أن تكون عمادا للأخلاقية. وهو ما توضحه قصة جيجس التي بدأنا بها هذا المقال، ولفهم الأمر أكثر نضرب مثلا آخر بحكاية الجلاد والسجين: هب أنه قد قبض على رجل بحوزته أسرار مهمة، فتم أخذه لدى الجلاد قصد إجباره على الاعتراف، لكن مع توصيات بعدم قتله، فقام الجلاد بضربه ثمانين جلدة أسقطته أرضا، فخاف من غضب المسؤولين ومن ضياع الأسرار، فسارع حاملا علبة الدواء، فبدأ في إعطائه الإسعافات والعلاجات اللازمة ووضع الضمادات على جروحه وتقديم الماء له. فلنتصور أنك دخلت في تلك اللحظة، فأكيد ستحكم على أن الجلاد طيب، لكنك خدعت لأن النية هي معاودة الجلد من جديد.
انطلاقا من هذه الأمثلة وأخرى، يتبين كم أن التجربة لا يمكن التعويل عليها في تشييد صرح أخلاقي متين، لأنها متغيرة ونسبية وخاصة، من جهة، كما أنها خادعة ومضللة من جهة أخرى، والتغير والخداع كافيان لدحض كل فكرة أخلاقية مبنية عليهما، الأمر الذي جعل كانط يولي نفسه شطر الذات باحثا عن أساس أفضل للأخلاقية الذي سيجده في الإرادة الطيبة "النية الصافية في ثقافتنا" فهي الخير الأسمى، فالراعي جيجس لم تكن إرادته طيبة والجلاد بالمثل.
*أستاذ مادة الفلسفة ــ المغرب