الإرادة الطيبة.. الجوهرة اللامعة في جوف الإنسان

قد تصاب بمكروه وتصبر عليه، فيقال لك: أنت رجل طيب، ما دام أنك على هذا التحمل والجلد، فالصبر خصلة حميدة، وقد تعطى لك أمانة فتصونها وتحميها، فيقال لك بالمثل: أنت رجل أمين، والأمانة خصلة حميدة .. وهكذا يقال عن كل الصفات التي يتحلى بها المرء وتدخله خانة الخير أي الأخلاق، كالإقدام والشجاعة والعفة .. فهي سمات توضع في مرتبة عالية والساهر عليها هو نبيل يتجه بنفسه نحو الكمال الإنساني. لكن بالرغم من ﺫلك هناك إشكالية تعترض طريقنا في هذا الوصف المقدم، فإذا ما سلمنا مثلا بأن الصبر خصلة حميدة، فهناك من الأمثلة ما يربك ويحرج هذا التصور ــ شبه المجمع عليه ــ وهو ما تنبه إليه الفيلسوف إيمانويل كانط وبوضوح شديد بحديثه عن مثال المجرم وﺫلك كالتالي: إن المجرم لا يوجد أحد أشد صبرا منه، فقد يتربص بضحيته لسنوات وبكل الهدوء اللازم وبالدم البارد الكافي، وإذا عدنا إلى المسلمة الأولى كون أن الصبر خصلة حميدة، فهذا يعني مباشرة أنه علينا القبول بالنتيجة التالية وهي أن المجرم له خصلة حميدة، أي طيب وخير، وهذا خلاف وتناقض صارخ لأننا نعلم أن المجرم مدمر ومخرب، والتدمير والخراب شر لا يمكن وضعهما في خانة الأخلاق.
إذن مع هذا التصور الكانطي ستنقلب الأمور جذريا لتصبح الأخلاق ليست هي السلوكات المسماة حميدة (صبر، أمانة، عفة، إقدام ...) بل ستصبح هي تلك الشحنة المضيئة القادمة ليس من التجربة أو ما نراه يتجسد حولنا، بل من عمق الذات وبعبارة أكثر وضوحا: الأخلاق مصدرها باطني يخرج من منبع يسميه كانط "الإرادة الطيبة" أو ما يسمى عندنا "النية الصافية"، فالمجرم إرادته سيئة رغم أن سلوكه صبور، فالعبرة بالدوافع الداخلية ومدى نقائها وصفائها، فلنوضح ﺫلك.

#2#

الإرادة الطيبة منبع الأخلاق
يقرر كانط أن الإرادة الطيبة أو الصالحة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن نعده خيرا دون قيد أو شرط، حيث يقول في كتابه "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق": "من بين الأمور التي يمكن تصورها في هذا العالم أو خارجه، لا يوجد شيء يمكن عده خيرا على وجه الإطلاق ودون قيد، اللهم إلا شيء واحد هو: الإرادة الخيرة "فكانط يتحدث عن قوة داخلية في الذات الإنسانية لا تعمل بحسب الظروف والأهواء وإنما تنبع من قانونها الخاص، فكل الملكات من ذكاء وفطنة ومهارات... وكل الخصال من شجاعة وإقدام وصبر ... تبدو خيرة ومرغوب فيها لكنها قد تصبح فاسدة إن أسيء استخدامها، فهي لن تكتسي قيمة الخير إلا إذا تمت انطلاقا من إرادة طيبة، فالعبرة إذن ليست بما نملك من ملكات ومن مواهب "تسمى حميدة"، بل العبرة بالنية والإرادة الصافية الموجهة لها نحو الخير باعتباره الغاية الأسمى المنشودة، فلا شيء خير في ذاته إلا الإرادة الطيبة، فالمعرفة مثلا التي تبدو خيرا يمكن أن تستخدم بواسطة خائن لوطنه فتصبح فاسدة، وبالمثل نقول عن القوة الجسمية أنها تبدو خيرة لكنها قد تستعمل سلبا وتسيء للذات والآخر.
يقول كانط: "الاعتدال في العواطف والانفعالات والسيطرة على النفس والمقدرة على التبرير المتزن ... إنها جزء من القيمة الباطنية للشخص غير أنه ينقصها كثير كي نعدها خيرة دون تحفظ (وإن كان الأقدمون قد أثنوا عليها ثناء لا مزيد عليه)؛ ذلك لأنها إذا لم تستند إلى المبادئ التي تقدم عليها الإرادة الطيبة فقد يستفحل شرها، وأن دم الشرير البارد لا يجعله أشد خطورة فحسب، بل إنه ليزيد مباشرة من بشاعته في أعيننا أكثر مما كنا سنحكم لو أنه تجرد عنها". فالناس قد يحكمون على بعض الأفعال بالنبل من قبيل الصبر والشجاعة والإقدام ورباطة الجأش، لكن إذا تصورنا، كما سبق الذكر، أنها تتوافر عند المجرم لجعلت منه شخصا خطيرا، فالإرادة الطيبة هي الخير الأسمى الذي يتوقف عليه أي خير آخر، لذلك فهي مقدسة لذاتها، بغض النظر عن نتائجها فهي واجبة التقدير.
إن الإرادة الطيبة، أي ذلك المخزون من أشعة الخير القابع في الإنسان، تريد أن تتجسد وأن تنزل إلى عالم التجربة والممارسة لكنها تجد عراقيل وكوابح تمنعها من البروز نقية طاهرة، تتمثلة في المنافع والمصالح والميول والنتائج والجزاءات والعقوبات ... أي كل ما يسميه كانط التجربة.
يرى كانط أنه إذا ما اعتبرنا مثلا أن الإرادة الطيبة مقيدة بشكل مطلق وليس لها حتى منفذ واحد للعبور نحو الواقع فهي رغم ذلك ستبقى لامعة بذاتها لمعان الجوهرة، فنجده يقول "إذا ما شاءت نقمة الأقدار أو تقتير طبيعة ... أن تسلب هذه الإرادة الخيرة كل قدرة على تحقيق أهدافها ... فسوف تلمع بذاتها لمعان الجوهرة، مثل شيء يحتفظ في نفسه بكل قيمته. فلا المنفعة تستطيع أن تضيف إلى هذه القيمة شيئا، ولا العقم يمكنه أن ينقص منها شيئا. ولن تزيد المنفعة على أن تكون التغليفة التي تيسر تداول الجوهرة بين الناس، أو تلفت إليها أنظار من لم يعرفوها بعد معرفة كافية، لا كي توصي بها العارفين أو تحدد قيمة ثمنها".
نخلص إلى أن الإرادة الطيبة هي بمثابة الجوهرة في جوفنا، لها قيمتها في ذاتها سواء ثمناها أم لا. فهي نقية وصافية بغض النظر عن تداولها والمنافع المرجوة منها. إنها الخير المطلق غير المرتبط بشروط أو المؤطر بظروف الزمان والمكان، لذلك فهي منطلق كل فعل أخلاقي حقيقي.
يبقى علينا الآن طرح السؤال الأهم وهو: ماذا يجب فعله كي نترك الإرادة الطيبة تظهر بكل نقائها ولمعانها؟ وما السبيل إلى فرزها عن كل شوائب المادة المعرقلة لخروجها من جوفنا؟ وكيف يتأتى لنا إزالة الأغلفة التي تمنع تجليها بوضوح أو تظهرها ناقصة اللمعان؟ إن الحل عند كانط سيكون في ضرورة البحث عن قواعد ومبادئ تسمح بفصل التجربة عن الإرادة الطيبة، أي فصل الذات عن الموضوع، وإبعادها عن كل خدش يمسها من جراء طغيان النوازع الحسية. فما هي هذه القواعد؟

* أستاذ مادة الفلسفة ــ المغرب

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي