علاجُ العظماءْ ..
إن أول طريق للتسامحُ هو التأملْ.
قد تتسأل، كيف يكون التأملُ هو الطريق الذي يأخذك ناحية التسامح؟
إنك حين تتأمل فأنت تتجرد من كل صغيرة وكبيرة، تصل إلى مرحلة النقاء الروحي، والذاتي، الذي يُجردك من كل ضغينة ومشاعر سلبية، تتصالح مع كل ما حولك، وتسمو إلى درجة تتجدد بها بعمق لا يوصف.
أنت حين تتأمل تختار أن تكون نظيفا بصدق، لأن التأمل الحقيقي يحملك في كل مرة إلى رؤية طاهرة تُشعرك بأن كل مجريات الحياة لا تستحق إلا أن نعبرها بحب وسلام وتصالح دائم، ومستمر يتجدد في كل منعطف لا يلزمك أن تتوقف عنده بمشاعر منخفضة، بل أن تكون متجاوزا بحب، وراضيا بصدق، ومؤمنا بأنها أقدار مكتوبة يلزمك التسليم لها والتسامح معها.
قد يعتقد البعض أن التأمل يعني أن أُركز في شيء محدد، وأن ينحصر كل انتباهي ناحيته!
أجيبُ أن هنالك فرق كبير بين التأمل والتركيز. التأمل هو أن تسبح في عالم لا محدود، أن تكون خالياً تماما من كل تفكير، أن تتأمل فيما حولك دون أن تُحلله وتفسره، إنما تحاول أن تصل لمرحلة الحب والتصالح والانسجام والتناغم مع كل ما حولك، من سماء، وأشجار، وطيور، وأزهار، وجمادات..
وكلما كانت المساحة أوسع كلما كان التأمل أعمق نتيجة، وأجمل تأثيرا..
إن التأمل يعني أن يسترخي عقلك وفكرك من التفكير والتحليل.
يعني أن تسمح لنفسك أن تصل لمرحلة اللآتفكير.
إنه ببساطة يعني أن تنسى كل شيء، وأن لا تفعل أي شيء، بل أن تتنفس بهدوء واستشعار تام لهذا الكون من حولك، أن تتمتع بإحساس لا يمكن وصفه من الراحة الذهنية، والتجرد من مثقلات النفس.
إنه يعني أن تصغي لكل ما يحدث حولك دون أن تفكر بالأسباب أو المسببات.
بعكس التركيز الذي يحتاج أن تكون مستحضرا كل قواك الذهنية والعقلية، للتفكير، والتحليل، دون أن تُشتته بما يدور من حوله من أحداث وغيرها.
إن التأمل فضاء لا حدود له، أما التركيز فحدوده لازمة وواجبة.
آن لك أن تدرك المعنى بين التأمل والتركيز.
وأن تفهم أن التأمل فعليا يأخذك بقوة ناحية التسامح.
إن التسامح الحقيقي الذي تختاره أنت يعني أنك اخترت سعادتك، فقاعدة ما تقول أن التسامح والسعادة وجهان لعملة واحدة، وكلما كنت أكثر تسامحا كلما كنت أكثر سعادة من الداخل، لأنك توافق فطرتك وتتناغم معها في أن تتجرد من كل ما يتعب داخلك من مشاعرغير إيجابية ناحية مواقف أو أشخاص، ربما مضى على ما صنعوه وقتا طويلا، وأنت لا تزال مُثقلُ بما فعلوه بعدم تسامحك الذي يضمن لك سعادتك التي تخليت عنها لأسباب غير مجدية.
وكن متأكدا أنه لا يمكن لشخص ما أن يقول أنه سعيد وهو غير متسامح، سعادته تلك لا تعد سعادة كاملة، لأن السعادة تكون كاملة حين تكون روحك خفيفة ومتسامحة.
وأريد شرح مفهوم التسامح الذي ربما يخلط البعض بفهمه بأنه ضعف وإعانة على تكرار ذات الخطأ، والسماح للآخرين بإنتهاك دائرة الكرامة.
إن التسامح يعني قرارا بعدم الإيذاء وعدم الانتقام.
واختيار بأن أتخلص من انخفاض مشاعري ناحية ذات الشخص، وتصالحي التام معه دون احساس بالشحناء والتوتر في حضرته.
وأذكر في ذلك مقولة جميلة للويز هاي :
" إن التسامح والغفران مع شخص ما لا يعني أن أصفح تماماً عن سلوكياته الخاطئة،
وإنما أن أتخلى عن مشاعر السخط نحوه كمحاولة لإصلاحه ".
ترجمة ذلك يعني أن لا أكون راضيا بفعلته، ولكن من خلال تسامحي مع شخصه، سأصنع رباط حب يساعده في أن يخجل من تكرار الخطأ.
وحين أتسامح بصدق، ذلك يعني أن أنسى تماما ما حدث، وذاك يكفي أن أكون نظيفا من الداخل.
والتسامح لا يقتصر على الأشخاص فقط، إنما يلزمني أن أتسامح مع الأحداث، والعقبات، وكل ما يعبرني في محطات الحياة عامة.
إنني في كل مرة أختار فيها عدم التسامح يتحول ذلك الألم لنقاط مظلمة في داخلي، قد تتحول إلى أمراض مزمنة، وبعضها قاتلة، لأني أخالف فطرتي في أن أحمل بداخلي مالا أطيقه!
أضيف لكم بحب قصيدة أجنبية أعجبتني لأنها تحمل معاني رقيقة :
للمؤلف -جيرالد ج. جامبولسكي-
" التسامح يعني
ألا تنكأ الجروح القديمة
فلا تستمر في النزيف
التسامح في معناه العميق
هو أن نسامح أنفسنا
التسامح يفتح الباب، بابًا
بيننا وبين الروح
فلنتكاتف مع أنفسنا
ونصبح مع الله ".
..
ولتقوية ورفع منسوب التسامح لديك طرق عدة، ذكرت التأمل بداية كأساس لها وبناء ووعاء.
ولكن الدعاء أيضا يلي التأمل، فدعاءك للشخص الذي تشعر ناحيته بمشاعر منخفضة وغير متسامحة، يمسح عنك ويصنع حريتك ويخلق شعورا لا يمكنني أن أصفه لك لعظمته.
كذلك العطاء، إن العطية والهدية يمكنها أن تكسر شعور الانخفاض لترفعها لسقف الحب، لتتجرد أنت من شعور السخط مرتفعا بشعور الرضا، وقد يصل بك هذا الرضا إلى نسيان الألم الشعوري، ومن ثم الانتقال للقبول والحب العميق الذي يُتوجه التسامح.
إن التسامح في كل الأحوال حرية حقيقية وقوة كبيرة للغاية.
إنه علاج العظماء، فلا يمكن لعظيم نفس أن يصفه الناس بأنه محبوب ويجد الجميع لديه قبولا كبيرا. مالم يكن علاجه الدائم والسري هو التسامح اللآمشروط واللآمحدود والشامل لكل شخص وحدث.
أختم برباعية مركبة أسستها كي تكون بناء ومرجعا لكل من يبحث عن كيفية التسامح :
- إدراك أن "التأمل" هو أول طريق للتسامح، يليه "الدعاء" و"العطاء".
- استشعار اختياري للتسامح الذي يعني اختياري "للسعادة والحرية الحقيقية العميقة"، والتي لا يمكنها أن تأتي دون تسامح.
- أن لا ينحصر تسامحي مع الأشخاص فقط، إنما يكون تسامحا مع الأحداث، والصدمات، وكامل منعطفات الحياة، بوعي تام بأن التسامح يلزمه أن يكون "شموليا، لامشروطا".
- الوعي بأن التسامح يعني توافقك مع الفطرة، فأنا حين أكون متسامحا أكون "متوافقا مع فطرتي، متناغما ومنسجما مع طبيعتي"
في أن أتخفف مما يؤذي قلبي من أعباء يلزمني التخلص منها عن طريق التسامح العميق.