التقصير
الأستاذ فهد الدغيثر مندهش لأننا جميعا نعرف سبب نجاح مشروعات "أرامكو" وأمثالها لكننا لم نحاول التعلم من هذه التجربة التي تعيش بيننا منذ نصف قرن (الحياة 26-10). أما أنا فلم أندهش، لأن الأمر ببساطة يتعلق بإرادة التعلم. من لا يريد أن يتعلم فلن يتغير حاله ولو أمضى ألف سنة يتابع تجارب الآخرين. شاهدنا مئات التجارب الشبيهة، في المملكة وفي العالم. لكننا اكتفينا بالتسلية. نستأنس برواية نجاحات الآخرين، ثم نوبخ أنفسنا قليلا، ثم نقول لبعضنا: "من لا يعمل لا يفشل"، ثم نمتدح بعض أوهامنا وربما يبالغ بعضنا فيكتب مثلا أن ألمانيا تدعو للاستفادة من تجربتنا التعليمية، ثم نضحك على هذه الكتابات، ثم تأتي قضايا أخرى تنسينا سابقتها ونعيد الكرة: مشاهدة، تسلية، جلد للذات، تبرير للتقصير، امتداح للذات، وهكذا.
زبدة القول إننا لن نستفيد من تجارب الغير ما لم نقبل بدفع ثمن التعلم منهم. نحن بحاجة إلى شجاعة الإقرار بالقصور وعدم تبريره، والجاهزية لدفع الثمن المطلوب، لأن المعرفة لا تأتيك مجانا.
رأى الأستاذ الدغيثر أن المعيار الرسمي في المناقصات الذي يرجح الأرخص ثمنا على الأجود هو سبب تعثر المشروعات العامة أو تدني كفاءتها، وذكر أيضا ضعف التأهيل الهندسي للدوائر المعنية بالمشاريع. وأعلم أن كلا السببين صحيح. ثمة جسر صغير في القطيف، مضى على البدء في بنائه أربع سنوات وما زال ينتظر فرج الله. يدعي أهل البلدية أنهم اكتشفوا عيوبا فيه وأن المقاول اكتشف اختلافا في الوصف الجيولوجي للأرض التي أقيم عليها، واكتشف الجميع لاحقا أخطاء في تقدير الكلف .. إلخ. وكل هذه تساق كتبريرات للتقصير. لكن السؤال المسكوت عنه دائما هو: ما الإجراءات التي اتخذت بحق المسؤول الذي وقع على تلك المواصفات، والذي فاوض المقاول، ثم وقع على أهليته؟ هل جرت مناقشة إدارية أو فنية صريحة ووضع تقرير كامل عن القضية، هل اكتشفت الإدارة المعنية تقصيرا متعمدا أو جهلا بالعمل أو غفلة عن المتابعة؟ وهل تم تحديد المسؤول أو المسؤولين عن كل تلك الأمور، وهل تمت محاسبتهم؟
اعتقادي الشخصي أن الحال لن يتغير إلا إذا وضع نظام يجبر مديري الإدارات الرسمية على تقديم بيان علني موثق عن أعمالهم في نهاية كل عام، يذكر فيه بوضوح بنود خطة العمل المقررة سلفا وما أنجز منها وما تعطل وأسباب ذلك.
العلنية والشفافية والمحاسبة علاج عظيم لأمراض الإدارة العامة، وقد جربها غيرنا وثبت نجاحها. هذه أعظم تجربة ينبغي لنا تعلمها، لكن التعلم - كما أسلفت - رهن بالشجاعة والجاهزية لدفع الثمن. بعد معرفة تجربة العالم، أجزم أنه لا يوجد علاج دون شفافية ودون محاسبة علنية.