الإرسال والاستقبال في الدبلوماسية الشعبية

تناولت في مقالات سابقة موضوع "الدبلوماسية الشعبية" أو"الدبلوماسية العامة" Public Diplomacy، وأجدني في هذه اللحظات المفصلية من تاريخ المنطقة، وقد بدت ملامحها في الأفق، أعيد طرح هذا الموضوع البالغ الأهمية على الصعد كافة. إن خير شاهد على ضرورة الاهتمام بممارسة الدبلوماسية الشعبية بحرفية عالية في الداخل والخارج، عبر تفعيل الدورة الحياتية الشهيرة: البحث، فالتخطيط، فالتطبيق، فالتغذية المرتجعة والتطوير المستمر، هو ما نشهده من تنام متصاعد لقوة تأثير الرأي العام، حيث أضحت قوة ضاربة، انهارت أمامها حكومات، فيما بات يُعرَفُ بـ "موجات التمرد الشعبي" كما يسميها البعض، أو ثورات "الربيع العربي" أو"شبكات التواصل الاجتماعية" كما يحلو لآخرين، فمتى ما تشكل الرأي العام بوضوح، الذي ليس بالضرورة أن يكون مبنيًّا على حقائق، بل قد يبنى على شائعات أو مبالغات، وأكثر من ذلك؛ فقد يتم تحريكه وإثارته من قبل جهات مجهولة قد تكون خارجية معادية: فإنه يوجد إرادةً شعبية، قد لا تكون بالضرورة مخططا لها بطريقة مدروسة، أو على أساس علمي، وقد تكون كذلك، إلا أنها – بغض النظر - فاعلة جداً على الأرض، كونها أضحت إرادة جمعية. لقد كانت هذه الثورات – كما يرى باحثون - شعبية بامتياز، ولم تكن ثورات "تويتر" أو "فيسبوك" أو "يوتيوب" كما يحلو للبعض القول، فهذه أدوات تقنية، استخدمها الناس للتعبير عن آرائهم بحرية، وصوت عال، ومن ثم تجميع بعضهم بعضا وفق مصالحهم وحاجاتهم الحقيقية، وتحركهم كان إيماناً منهم بذلك. قد يذهب البعض للقول إن المحرك الأساس، أو"المثير" الأول "مصطنع" وبفعل "فاعل" مستتر، ولأهداف مستترة أيضا، لا تريد الخير، ولهذا القول ما يسنده، إلا أن الحقيقة الثابتة أنه لا هذا المستتر المثير للشرارة الأولى، ولا أدوات التواصل الاجتماعي، لم يكونوا ليوجدوا وضعاً جديداً على الأرض، لو لم يكن للناس رغبة، وحاجة، وإرادة للفعل في الشارع. لكن من جهة أخرى فإن هذه الثورات لم تكن لتحدث لو لم تتهيأ لها وسيلة التواصل الجمعي الإلكترونية التي وفرتها الإنترنت وتطبيقاتها الحديثة، حيث شارك فيها أغلبية فئات الشعب في البلاد التي ثارت ضد ما تصفه بـ"القهر والإذلال، والظلم والطغيان"، لقد اتسمت الأنظمة القائمة في تلك الدول في تلك الفترة، بعدم الاستجابة لمطالب الشعب وحاجاته، وعدم الاستماع إليه والتحاور معه، بل تعاملت بقسوة مع شعوبها، وإذ بها فجأة تفقد سيطرتها على الحياة العامة وتنزلق من قبضتها، فكانت بحق تستحق وقفة تأملية، لما لها من ارتباط مباشر بالعمل الدبلوماسي الشعبي، إن لم تكن هذه الثورات بالأساس في صميم الدبلوماسية الشعبية.
لقد سبق هذه الثورات جميعها، في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، وواكبها، تنشيط اتصالي غير مسبوق من خلال مصادر المعلومات، حيث تشارك المواطنون بأفكارهم علناً وبلوروها، فبعد أن كان المواطنون في هذه البلاد صامتين لفترة طويلة، وجدوا أصواتهم وضجيجها يتسببان في كسر، ومن ثم تفتيت هذه الأنظمة التي تصفها شعوبها بـ"الشمولية المستبدة". يرى مدير معهد الدبلوماسية الشعبية في جامعة جنوب كاليفورنيا "Philip Seib" أننا نشهد في هذه الحالة غير المسبوقة "أحدث التغييرات في ممارسات العلاقات العامة الدولية، التي يستخلَص منها – بحسب سيب - عددٌ من الدروس التي تسترعي الانتباه، كالتالي:
• إن الديمقراطية لا تزال جذابة، ولا يزال الناس على استعداد لوضع أنفسهم وبلدانهم على المحك لتحقيقها، والظفر بها.
• مع انتشار وتنوع ساحات الاتصال الجماهيري، أصبح الفرد من المواطنين – بحد ذاته – سلطة فكرية وسياسية، وأصبح المواطنون يعرفون الكثير عما يجري من حولهم، ويستخدمون أدوات الإعلام الجديد لتشكيل الجماعات ذات المصالح التي تعزز أنشطتهم السياسية.
• يجب على الحكومات أن تتعلم كيفية التعامل مع التطورات السياسية والمضي قدما بوتيرة أسرع من أي وقت مضى. فحتى "دورة الأخبار على مدار 24 ساعة" أصبحت قديمة بسبب اعتمادها على عدد محدود من مصادر المعلومات ويمكن مراقبة محتواها من قبل صناع القرار بسهولة نسبية. أما الآن فإن مصادر المعلومات أصبحت مشتتة، ومتسارعة، والعديد من الحكومات التي تسعى إلى مواكبة الأحداث، تفتقر إلى وسائل منهجية لفهم واستيعاب المعلومات والحكم عليها، وبالتالي تصبح عملية صناعة السياسات مترددة، وردا للفعل".
ويظهر لي كمتابع أن مختلف الحكومات حول العالم قد فوجئت – وإن بدرجات متفاوتة – بما جرى ويجري من أحداث متسارعة في الدول العربية، وهو ما تظهره ردات أفعالها والتصريحات الرسمية التي صدرت، وتصدر، هنا وهناك، كونها لم تستوعب بعد حقيقة أن الإعلام الجديد غير، بالفعل، ديناميكية السياسة المحلية، والدولية، من خلال تمكين المواطنين من القيام بفعل ملموس على الأرض. فعلاوة على وظيفة نشر المعلومات، قامت شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت بتوفير البنية التحتية اللازمة لتكون أساساً للحركات الثورية السياسية، ما يتطلب من الحكومات سرعة في الاستيعاب، وتطويراً في وسائل الاستشعار والرصد والتحليل، واتخاذ ردود الأفعال السريعة على الصعد كافة، وفي مقدمتها العمليات الدبلوماسية، إلا أن سيب" Seib " في الوقت ذاته، يشير إلى أن "العملية الدبلوماسية" هي في الأساس غير متوافقة مع السرعة، إذ إن الدبلوماسية الفاعلة لا يمكن إنجازها بشكل آني ومتسرع، كونها تحتاج إلى تواصل مستمر بين الأطراف، ذهاباً وإياباً، والاستماع بإنصات، والاستجابة بعناية، وهو ما يدعوني – كمهتم بالعمل الدبلوماسي الشعبي- للنظر لآليات جديدة تدعم العملية الدبلوماسية لجعلها تتواءم، وتتكيف، وتستوعب هذه التغيرات المتسارعة، الناجمة عن انتشار المعلومات، وتنوع مصادرها بين يدي الأفراد في مختلف الأقطار، وبالتالي تدعم عمليات صناعة القرارات في السياسة الخارجية، بل المحلية، على السواء، ما يوجد بدوره استراتيجيات جديدة، لدبلوماسية شعبية جديدة في زمن الإعلام الجديد، لتحقيق الأهداف والمصالح الوطنية على الأرض. وبحسب الباحثين، فقد تجاوزت سرعة عملية نشر المعلومات ونقلها، العمليات الدبلوماسية بمراحل، خلال القرن العشرين، حيث أضحى الراديو والتلفزيون، ومن ثم الإنترنت من مصادر المعلومات السريعة والمفتوحة، للعامة، ولصانعي العملية الدبلوماسية على حد سواء، وبذلك بدأت الحقيبة الدبلوماسية تفقد أهميتها شيئاً فشيئاً كمصدر للمعلومات في عمليات صناعة السياسة الخارجية، حيث أصبح صانع السياسة الخارجية يتلقى الأخبار والمعلومات من مصادر المعلومات المفتوحة كالقنوات الإخبارية الفضائية العالمية أو مواقع الإنترنت الإخبارية، ومواقع التواصل الاجتماعي كـ"تويتر" و"فيسبوك"، لكن في الوقت ذاته، فإن موثوقية المعلومات والتقارير التي يجري استقاؤها من هذه المصادر تبقى محدودة. وهنا يأتي دور المنفذ للعمليات الدبلوماسية الشعبية، في القيام بمهمته الرئيسة الثانية: "الاستقبال"، على اعتبار أن المهمة الرئيسة الأولى: "الإرسال"، وفق نموذج التواصل ثنائي الاتجاه، وهذا الاستقبال يتمثل في رصد الأحداث، والاتجاهات، وكيفية استقبال الرسالة، والاستجابة لها، من خلال الحوار والتفاعل مع الفئات والفعاليات الشعبية المختلفة في الدول، وتوثيقها، وجمعها، ومن ثم تحليلها، وصولا إلى استخلاص النتائج ذات القيمة التي تدعم صانع القرار للقيام بتنفيذ الخطوات اللاحقة، أو لإجلاء الصورة وتفسير الأحداث على الساحة الدولية ومعرفة بواطنها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي