المصلحة العامة لا تعني مجموع المصالح الفردية

يواجه صاحب القرار الحكومي مشكلة تتمثل في عدم وضوح مفهوم المصلحة العامة وغياب النظرة المشتركة وعدم الاهتمام بالقضايا العامة لدى عموم المواطنين. ويرجع وصفها بالمشكلة إلى سببين: الأول أن تقديم المصالح الفردية على المصلحة العامة فيه تفويت لمصالح وطنية أكبر وأهم تمس الأمن والاستقرار والقوة الاقتصادية والسياسية والأوضاع المستقبلية للوطن. والسبب الثاني أن تقويم أداء القياديين الإداريين والأجهزة الحكومية يبنى على مدى تحقيق المصالح الفردية وليس البناء المؤسسي وتطوير الأداء الإداري وتقديم خدمات أفضل كما ونوعا وجودة والمساهمة في انتقال المجتمع إلى مستويات أعلى من التحضر الاجتماعي والتنمية الاقتصادية. هناك الكثير من التحديات التي تواجه المجتمع ولكن في ظل السباق المحموم للأفراد في الحصول على المنافع الخاصة يتم تجاهل القضايا الوطنية الكبرى ولا يلقى لها بال من قبل العموم. على سبيل المثال شح المياه وتكلفة إنتاجه العالية ليست من ضمن اهتمامات المواطن، وكأنما سيطرت عليهم الأنانية وتمثلوا قول الشاعر "فإذا مت ظمآنا فلا نزل القطر!". والكل يشاهد كيف أن الناس تسرف في استخدام الماء وكأن ليس له قيمة أو أن لدينا أنهارا جارية وأمطارا غزيرة طوال السنة وينابيع تتفجر من تحت أرجلنا. وهكذا يمكن قياس تصرفات العموم التي تتصف باللامبالاة في استخدام المنافع العامة. وإذا ما أضفنا التفكير في المستقبل والإعداد له فذلك أدهى وأمر، فلا أحد يلتفت للقضايا المستقبلية ويكون هم الكثيرين الاستهلاك المعيشي اللحظي.
هذه مشكلة ثقافية تتعلق بوجهة النظر حول دور الحكومة في المجتمع وفهم المعنى الحقيقي للسلطة العامة. الكثيرون يرون الحكومة بدور المعطي المانح ويتصورونها الكعكة الاقتصادية التي يسعون إلى اقتطاع أكبر نسبة منها. الذي أسس لمثل هذه الثقافة هي الطفرات الاقتصادية التي أثرت في قيم الناس فتحولوا بأولوياتهم من الإنتاج إلى الاستهلاك وأصبحت هناك مباهاة في تملك الملكيات والإسراف والبذخ وتجذر في داخل أنفسهم حب الذات وتحقيق المصلحة الفردية حتى طغت على المصلحة العامة ولم يعد التفكير الجمعي بذي أهمية. فترى الناس يتسابقون في الإنفاق الاستهلاكي بغير رشد وفكر اقتصادي من باب الحرية الاقتصادية والإنفاق من حر مالهم. لكن القرارات الفردية لها تأثيرات جانبية سلبية تطول الجميع وتستنزف المقدرات الوطنية. فليس المهم أن باستطاعة الفرد الحصول على السلع والخدمات ولكن ما تأثير قراراته الفردية في الموارد الطبيعية التي هي ملك للجميع. تصوروا لو أن هناك بحيرة يصطاد الناس منها فلو تركوا يصطادون اصطيادا جائرا دون شرط أو قيد لتلبية الاستهلاك المسرف لنفد السمك من البحيرة ولم يعد باستطاعتهم في المدى البعيد الحصول عليه. إنها مسألة تتعلق بالمصير المشترك لأفراد المجتمع وهو أمر لا يمكن إدراكه من خلال النظرة الفردية وإنما يستلزم أن تكون هناك رؤية مشتركة. وهذه الرؤية المشتركة تستدعي التخلي عن الأنانية الفردية التي تحجبها والتحول لرؤية الأمور من منطلق الجماعة. فمصلحة الجماعة لا تعني مجموع المصالح الفردية وإنما مصلحة تقع فوق تلك المصالح ولا تدرك إلا بالنظر إليها بعين الجماعة. فلو أن اثنين يقودان سيارتيهما وتقابلا في طريق ضيق لا يتسع إلا لسيارة واحدة، فإن كانت رؤيتهما فردية فسيتعاندان ولن يسمح أحدهما للآخر بالمرور، وسيظلان على تلك الحالة حتى يدركا أن عليهما الوصول إلى ما يحقق منفعتهما الجماعية وأن على أحدهما التنازل في سبيل الخروج من المأزق. وهكذا كثير من القضايا العامة التي تستلزم رؤية مشتركة، ولذا كان من الضروري وجود سلطة عامة في المجتمع تحقق المصلحة العامة التي يعجز الكثيرون عن إدراكها.
لكن في ظل التنظيم البيروقراطي والاعتماد عليه في عملية صنع القرار العام ضعفت مشاركة العموم وقل اهتمامهم بالشؤون العامة وأصبحوا يتلهفون لقرارات تتصل بمنافعهم الفردية، فلربما كان الحصول على الزيادة في الراتب أو الدعم الحكومي للمشاريع الخاصة أهم من الحديث عن الحفاظ على البيئة والاقتصاد في الموارد الطبيعية أو مناقشة أوضاع ما بعد النفط أو كيف نريد أن نكون بعد 30 عاما. هذه موضوعات غائبة عن النقاشات العامة ولا تستهوي الكثيرين، وربما نعتها البعض بالتنظير والمثالية وأنها سياسيا لا تصح لأنها تقف حجر عثرة أمام طموحات المواطنين ورضاهم في الوقت الحاضر. لكن لا بد من صنع القرارات الصعبة التي لا يرى جدواها العموم في الوقت الراهن، وهي إلى حد كبير موجعة، لأنها تعسف الناس على سلوكيات جديدة لم يعتادوها وتخرجهم من دائرة المألوف والنمط المعتاد. ومهما يكن الأمر فمن الضروري وقف النزيف المالي في الاقتصاد الوطني وإعادة التفكير استراتيجيا من منطلق المصلحة الوطنية العليا وجعل الناس أكثر مسؤولية بدلا من حال الاتكالية والاقتيات على الإنفاق الحكومي دون أن تكون هناك مساهمة فاعلة في التنمية الوطنية. وفي هذا السياق يكون من الضروري مراجعة النظم الإدارية والمالية الحكومية لضمان كفاءة الإنفاق الحكومي بما يحقق المصلحة الوطنية العليا. فهناك إنفاق سخي للدولة ونيات صادقة وجهود كبيرة، ومع ذلك ما زالت هناك تحديات كبيرة تتفاقم مع مرور الزمن مثل العطالة والفقر والعنوسة وهي مشكلات اجتماعية أسبابها اقتصادية في المقام الأول.
مشكلة الإنفاق الحكومي أنه يركز على استيفاء احتياجات ومتطلبات المواطنين كأفراد دون ربط ذلك بإطار استراتيجي عام، وبالتالي تتحقق المصالح الفردية على حساب المصلحة الوطنية. وهنا لابد من التأكيد من أن زيادة الإنفاق الحكومي لا تكفي لمواجهة التحديات الوطنية، وإنما لا بد من أخذ كفاءة توزيعه بعين الاعتبار حتى يصل الريال لمستحقيه، وفي الوقت ذاته يسهم في إنتاجية الاقتصاد الوطني. وقد تكون المركزية والبيروقراطية الشديدة أحد أهم أسباب ضعف الاستفادة من الإنفاق الحكومي. فمعايير صناعة القرار العام تعتمد على الإجراءات البيروقراطية الشكلية دون الالتفات إلى التأثير النهائي. فتجد إسرافا في المشاريع العامة وتكاليف منتفخة ومصاريف إدارية داخل الأجهزة الحكومية لا تمت بصلة للإنتاجية وتحقيق المصلحة العامة. كل ذلك بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن المصلحة العامة تعني مجموع المصالح الفردية!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي