أين مذكرات الفيصل وتاريخه؟
حين استقال من منصبه، في 29 أبريل من هذا العام، كان العزاء لنا في بقائه وزير دولة، مستشارا، وحاضرا. إلا أنه لم يدر بالخلد أن تكون الاستقالة من منصب وزير الخارجية 70 يوما فقط للرحيل، وكأن الاستقالة عنوان عريض لعلاقة تماهٍ بينه وبين عمله الذي أحب وأخلص له. 70 يوما فقط غادر فيها منصبه منذ 40 عاما. شخصية الفيصل أتت متكاملة على نحو لا يتكرر، جاء مهندسا كوزير خارجية. شخصية فذة، حضور، كاريزما، خبرة، عقلية عظيمة، حكمة، سرعة بديهة، روح النكتة، كل ذلك أتى مع تعليم وثقافة ولغات. وقد شهدت ذلك في حضوري لمؤتمرات دولية، كما مؤتمرات صحافية، وليس آخرها لقاؤنا الشخصي به مع مجموعة من الكتاب المهتمين بالسياسة الخارجية.
في صغري كنت أجيب عن سؤال: من شخصيتك الملهمة؟ فأقول بملء الفم: وينستون تشرتشل. سياسي محنك، وصحافي، وكاتب ومؤلف وشاعر ورسام. كنت في الواقع أجد مشتركات بين اهتماماتي وبين اهتمامات تشرتشل. وحين بدأت أكبر، عرفت الشخصية الأكثر إلهاما في سعود الفيصل. في الحقيقة نحن محظوظون بأن نكون الأجيال الأخيرة التي شهدت بعضا من تاريخه. وإننا لو قررنا شكل وصيغة من يمثلنا لهذا العالم الكبير فلن يكون تخيلنا بأبلغ من تخيل شخصية مثل سعود الفيصل. لقد مثلنا تمثيلا ليس دبلوماسيا فحسب، بل تمثيلا كنا نحتاج إليه لتأسيس الشخصية السعودية أمام العالم، فلقد أسهم حضوره العالمي في إحداث تأثير ذهني حول ماهية المملكة، قيمتها، وعمق تأثيرها، وماهية الشخصية الإنسانية فيها. ونرى ذلك جليا في مدى الاحترام والإعجاب الذي يكنه العالم له برغم الاختلاف. الدول كما الأجهزة، ليست نفطا ومالا وأدوات صناعية ومواقف جافة فقط، بل موارد بشرية توظف ذلك كله وتحدث التأثير الوجداني العميق من خلالها.
للفيصل مواقف وتصريحات تاريخية، هي عمر طويل للسياسة الخارجية السعودية، ما يمثل في مجمله تاريخ المملكة المعاصر، فقد عاصر أربعة ملوك وأربعة عقود، وشهد أغلب المراحل العصيبة في المنطقة والعالم في هذه العقود. الفيصل كان وسيط الحرب اللبنانية الأهلية، وكان حاضرا في العراقية ــ الإيرانية، وحربي الخليج الأولى والثانية، وعاصر حروب الإرهاب، والانتفاضة الفلسطينية، وحذر من خطورة الحرب الأمريكية على العراق، هو الذي قال في تصريح تاريخي إنه "إذا كان القضاء على صدام بالحرب حل لأزمة فإننا سنؤسس لخمس أزمات أخرى مقابلها"، كما عاصر ذروة سنوات ما سمي بالربيع العربي. في الحقيقة لا يمكن حصر ذلك عشوائيا، فالكواليس مليئة بالأحداث.
أقول كل ذلك وأختتم بسؤال مهم وملح: أين مذكرات وتاريخ سعود الفيصل؟ فور استقالته كتبت رسالة بذات السؤال إلى بعض الأصدقاء والزملاء، من بينهم أحد أبناء الفيصل، الذي قال إنها نقطة مهمة فنحن جميعا نتمنى ذلك. وكتبت السؤال ذاته إلى عادل العبدالكريم، مدير شركة أو آر ميديا، وهي شركة الأفلام الوثائقية التي يمتلكها عبدالرحمن الراشد. كما كتبت السؤال نفسه إلى السفير أسامة نقلي المقرب من الأمير سعود ورئيس الإدارة الإعلامية للوزارة. لا بد أن هناك مذكرات داخلية تركها الأمير، شهود آخرين، مواقف لتوثق. من حقنا أن نطلع على تاريخ ومواقف المملكة وسياستها الخارجية، وأن يحفظ ذلك لنا وللأجيال القادمة في فيلم وثائقي وفي كتاب يحكي ذلك. ربما نحتاج الآن لمن يعلق الجرس لتوثيق المرحلة والتاريخ في شخص مثل سعود الفيصل ــ رحمه الله.