أين يذهب كل هذا الماء؟

كمية المياه المستخرجة عالميا في اليوم الواحد تعادل 4000 كم3. لو قسمنا هذه الكمية بالتساوي على سكان كوكبنا لتحصل كل إنسان على 1700 لتر في اليوم الواحد (1.7 متر مكعب) وهي كمية هائلة من المياه. فالإنسان يحتاج في المعدل إلى 100 لتر في اليوم الواحد. أين يذهب إذن كل هذا الماء المستخرج والمعالج يوميّا من الأنهار والبحار ومن باطن الأرض؟ وكيف لهذه القسمة أن تكون صحيحة؟
في الواقع أن المائة لتر من الماء في اليوم تمثل الاستخدام "المباشر" أو المنزلي فقط للشخص الواحد. هذا الاستخدام يتنوع بين الشرب والطبخ والاستحمام والوضوء ... إلخ. إلا أننا نستهلك الماء كذلك بشكل "غير مباشر" أيضا. فاللحم الذي نأكله والحليب الذي نشربه والفواكه أيضا كلها منتجات قد استهلكت كميات كبيرة من الماء في عملية تربيتها وإنتاجها. التلفزيون الذي نشاهده والسيارة التي تقلنا والملابس التي نرتديها بل حتى الجريدة التي تقرأ هذا المقال من خلالها كلها منتجات اعتمدت على الماء بشكل أو بآخر في عملية تصنيعها.
إذن فبجانب الاستهلاك المنزلي، هناك وجهان آخران يستهلكان كميات كبيرة من المياه وهما: الاستهلاك الزراعي (لإنتاج المحاصيل والألبان وتربية الماشية) والاستهلاك الصناعي (لإنتاج المنتجات الصناعية كافة).
من المفاجئ للكثير معرفة أن 70 في المائة من الماء المستخرج في العالم تذهب للاستهلاك الزراعي في حين يذهب 20 في المائة للاستهلاك الصناعي، أما الاستهلاك المنزلي (أو المباشر) فلا يمثل أكثر من 10 في المائة من الاستهلاك العالمي (وفق إحصائية 2007). في المملكة العربية السعودية تشير الدراسات إلى أن نسبة الاستهلاك المنزلي تقدر بـ 9 في المائة فقط من مجمل الماء المستهلك (إحصائية عام 2006). أما كمية الماء المستهلك منزليا فتراوح في حدود 265 لترا للشخص الواحد يوميا وهي مع الأسف من النسب العالية عالميا.
سوف نتحدث في هذا المقال عن الاستهلاك المنزلي فقط في حين سنخصص مقالات مقبلة للحديث عن الاستهلاك الصناعي والزراعي.
الاستهلاك المنزلي (أو كما يسمى أيضا الاستهلاك البلدي أو الحضري وهما تسميتان أدق لشموليتهما) يمثل كل ما يتم استهلاكه في المدن أو القرى، وهو في معظمه ما يتم استهلاكه داخل المنازل في حين تذهب البقية للحدائق العامة والمساجد والمدارس وغيرها. كمية الاستهلاك تختلف من بلد إلى آخر بالاعتماد على عوامل عدة كنوعية السكان – الأرياف والمدن - ومستوى المعيشة وتطور البنية التحتية المائية والمناخ وغيرها. من الطبيعي ازدياد الاستهلاك للماء في المدن مقارنة بالقرى والأرياف لارتفاع مستوى المعيشة وسهولة الحصول على المياه هناك. مثلا، يقدر الاستهلاك المنزلي في أمريكا (وهو أيضا يختلف من مدينة إلى أخرى) بـ380 لترا للشخص الواحد أما في دول أوروبا الغربية كفرنسا فيبلغ 150 لترا للشخص و250 لترا في إيطاليا. في حين تقل هذه النسبة في كثير من المدن الإفريقية إلى أقل من 50 لترا في اليوم.
للتقليل من هذا الاستهلاك المنزلي العالي، من المهم أولا معرفة أين يستهلك فمن المستحيل إدارة ما لا ندرك أو ترشيد ما لا نعرف له حجما. من المفاجئ في الأمر أن أقل من 2 في المائة من الاستهلاك المنزلي يذهب فعليا للشرب فالإنسان يحتاج إلى شرب خمسة لترات فقط من الماء يوميا. في الواقع أننا لم نكن نعرف الكثير عن الاستهلاك المنزلي إنما تقديرات، إلى أن قام مجموعة من الباحثين في أمريكا عام 1999 بدراسة وقياس كل استخدام للماء في أكثر من ألف منزل في 12 مدينة أمريكية. الدراسة خلصت إلى نتائج أبرزها أن الأغلبية من الاستهلاك المنزلي – من 55 % - 60 % في المتوسط - تذهب في دورات المياه. الدراسة أيضا أوضحت أن سدس كمية الماء – 16 %- يضيع من خلال التسريبات من الشبكة (بالمقارنة، تبلغ نسبة المياه المهدرة من خلال التسريبات في الشبكة 19 % في بريطانيا و26 % في فرنسا). أما الباقي فيذهب في الغسيل وأخيرا الطبخ. من هنا تبرز أهمية الترشيد، خصوصا في دورات المياه، فاليابانيون قاموا مثلا بتقليص حجم طرادات المياه للتقليل من الماء المستخدم (Toilet Flushing) هناك والأستراليون أيضا على علم بكمية الماء المهدرة في دورات المياه وعليه فقد سنوا تحديد مدة الاستحمام بخمس دقائق. الدراسة أظهرت أيضا أهمية الكشف عن تسريبات شبكة المياه وإصلاحها ففي فرنسا مثلا يضيع إنتاج يومين من كل ثمانية أيام بسبب التسريبات!
للحد من الماء المهدر منزليا، هناك خطوات يمكن اتخاذها بداية من التوعية ونشر ثقافة الترشيد في استخدام الماء ومن ذلك الإعلان الجميل الذي تم وضعه على أحد خزانات وزارة المياه والكهرباء في مدينة الخبر، الذي يقول إن تسريب الصنبور بمعدل قطرة لكل ثانية كاف لملء هذا الخزان سنويا. الخطوة الأخرى هي بتفعيل استخدام أدوات الترشيد كالمستخدمة في الاستحمام وغسيل الصحون والملابس. أما الحل الأخير فهو بزيادة تعرفة المياه عند تجاوز حد معين من الاستهلاك شهريا. مصلحة المياه في مدينة لاس فيجاس كان لها قرار مختلف تماما وغير متوقع. المدينة لا تهتم بكمية الماء الذي يستهلك في المنزل – طالما بقي في المنزل وليس خارجه - والسبب بسيط جدا وهو أن كل قطرة من الماء هناك يتم تجميعها وإعادة استعمالها مرة أخرى وهو في رأيي حل مستدام.
ومع إدراكي وإيماني بأهمية الترشيد ولو لجزء بسيط، إلا أنني أرى أن تعطى الأولوية القصوى للاستهلاك الزراعي والحد من الهدر الجائر هناك وهذا ما سنتناوله لاحقا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي