خرائط التقسيم والطريق إلى الغابة

هل وجود طوائف وأعراق وقوميات مختلفة في حيز جغرافي كفيل بأن يكون مبررا لتفتيتها؟ هذا هو ما يبدو عليه التسويغ من قبل بعض دول الغرب والشرق والإقليم وبعض العرب فيما يخص بلداننا العربية سواء بحسن نية أو سوء نية.
وقد قرأنا وسمعنا على مدى العقدين الماضيين تواتر الحديث عن خرائط جديدة للمنطقة وكانت الحجة في الغالب تتكئ على أن هذه الدول العربية لم يكن لها وجود مستقل قبل اتفاقية سايكس بيكو. وهي إنما ولدت على هذا النحو بعد خروج المستعمر منها وأن حقيقة وجودها السياسي السيادي بدأ مع الربع الأول من القرن الـ 20 فقد كانت على مدى التاريخ مسرح كر وفر بين إمارات وخلافات وغزاة إلى أن أناخت عليها الإمبراطورية العثمانية ثم حلت محلها الدول المستعمرة بمحاصصات بينها كرس شكلها الحالي ثم تمزقات تداعيات الربيع العربي الذي تعالت فيه نبرة تقسيم المقسم.
قد تبدو حجة خريطة سايسكس بيكو مقنعة من الناحية النظرية، لكن هذه الحجة نفسها سرعان ما تتهافت إذا ما تم اعتمادها معيارا للقياس عليها في مصائر الدول الأوروبية وأمريكا نفسها، وقل مثل ذلك في بقية دول العالم.
فلم تكن الجغرافيا على مدى التاريخ رهنا لسلطة بعينها.. فإمبراطورية الإسكندر آلت في معظمها إلى الإمبراطورية الرومانية وكانت أوروبا كلها تحت هيمنتها ثم بعد تداعيها خضعت لكر وفر بين ممالك تضيق وتتسع حينا أو تتلاشى حينا آخر، والأمر نفسه حدث في سائر القارات، بل إن دول أوروبا ذاتها أكل بعضها بعضا حتى مع نشوء القوميات الوطنية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا... إلخ بمعنى أن الحيز الجغرافي لهذه الدول بذاتها لم تستقر السيادة لها عليه إلا في حدود 200 عام.
أما أمريكا فما هي إلا أرض منتزعة من سكانها الهنود الحمر الأصليين ومن سلطة التاج البريطاني والإسباني وغيرهما كما انتزعت بالبيع والشراء الاستيطاني تحت ذرائع مختلفة.
وإذا كانت هذه هي الصورة الفعلية لجغرافيات هذه الدول وما مرت به عبر مراحل تاريخها فالمعضلة تصبح أشد حين يأتي الحديث على الطوائف والأعراق وعلاقاتها بسيادات الدول الغربية، فما من دولة من دول أوروبا وكذا أمريكا ألا وهي موزاييك عرقي طائفي.. فهل يبرر موزاييكها العرقي والطائفي فضلا عن الولادة الحديثة نسبيا لسياداتها الدعوة إلى تقسيمها بتصفية الحسابات على أساس ما كان لكي يكون؟!
من المؤكد أن ذلك شذوذ لا عقلاني في التصور وفي المنطق مهما كانت لدى بعض المتطرفين أو المحرضين من مبررات تستند إلى تنظير له سنده على الأرض وفي أحداث التاريخ.. لكنه حتما باطل أباطيل في الواقع.
وهكذا.. فالدعوات التي يطلقها الأمريكيون أو الأوروبيون وسواهم عن أن الحل للعنف في سورية والعراق ولبنان وليبيا..إلخ هو التقسيم على مقاس العرق والطائفة ما هو إلا أسوأ سيناريو حتى لو تم فرضه بالقوة.. لأن ذلك سيعيد التاريخ إلى تفتيت للبشر تستنسخ فيه أشكال التجمعات البشرية البدائية التي ديدنها الإغارة على بعضها بعضا.. وبالتالي يستنفد الوقت في الخراب والرعب والموت بدل التقدم وتحل فيه الهمجية بدل الحضارة وكأننا نستحضر أرواح القبائل الجرمانية والهكسوس والبرابرة والأعراب.. ونستدرج معها الطوطم والسحر والخرافة والشعوذة ونندفع تحت غلواء المصالح إلى ما يأخذ البشرية نحو شريعة الغاب.
إن الساعين إلى تنفيذ هذا السيناريو ليس بوسعهم أن يضمنوا ألا يكونوا هم ضحايا له.. فإن كانت شريعة الغاب في الماضي السحيق مقطعة الأوصال والتواصل وقدراتها التدميرية محدودة فإن شريعة الغاب اليوم يمكن أن تتحول بسرعة إلى نمط يتسلط على العالم بأسره، طالما جعلت التقنية منه قرية كونية وهيأت لشياطين البشر إمكانية امتلاك ما يدمر في ثانية ما تم إنجازه في سنوات طوال، وأن يقتل في ثانية أيضا مئات الألوف بل الملايين من بشر بكل علمهم ونبلهم.. وليست تفجيرات الإرهابيين في نيويورك وفي أوروبا وفي بلداتنا العربية وأعمالهم الانتحارية إلا إشارات مكثفة لنذر شريعة غاب عالمية قد يفلت زمامها، خصوصا وفي الأذهان الدرس المرعب لحربين عالميتين خاتمة الثانية منهما كانت قنبلتين ذريتين قضت في دقائق على آلاف البشر الأبرياء وشوهت وحطمت مدنا بكاملها.
فمن ذا الذي يضمن ألا يكون سيناريو التقسيم المستهدف لبلداننا حتى مع كونه بعيدا عن ديار هؤلاء المتحمسين من يضمن له، أنه لن يؤجج النزعات العنصرية هناك وأنهم بذلك يديرون مفتاح كارثة شريعة الغاب العالمية؟ ألم تشهد كيف ارتجت سياسات الاتحاد الأوروبي وتنازعت دوله حدوديا تحت مأساة تدفق اللاجئين السوريين؟ فماذا لو ارتجت تحت ثقل تاريخها؟!
سيؤخذ هذا الطرح على أنه منظور أخلاقي للسياسة يتسم بالتبسيط ويراهن على أن هذه القوى المتنفذة قد تفقد رشدها، أو أنها لا تعي احتمالات ذلك.. وطبعا لست بصدد نفي هذا أو الاعتراض عليه غير أنني برغمه أتساءل: من ذا الذي يملك القطع جازما بعدم بروز هتلر واحد.. قد لا يكون زعيم دولة وإنما هتلر أفظع جنونا من بين هذا الفتات البشري المسكون بهوس فناء البشرية.. ليس في وزن سلاح البغدادي وابن لادن وإنما بسلاح تدمير ساحق من أجل تطرف ماحق؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي